Skip to content

18/06/23

أمراض التنكس العصبي وفجوة نقص البيانات الحيوية

51538747645_dede0d9c43-1
يعاني الخرف أكثر من 55 مليون شخص في العالم، يعيش أكثر من 60٪ منهم في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة حقوق الصورة:Russ Allison Loar. CC license: (CC BY-NC-ND 2.0).

نقاط للقراءة السريعة

  • البيانات أحد أثمن الأصول في العالم، ويمكن استخدامها لتحسين نظم الرعاية الصحية، ودعم اتخاذ القرار
  • نقص شديد في البيانات الحيوية الخاصة باضطرابات التنكس العصبي بالمنطقة
  • إعاقة تطور الأبحاث الصحية المستهدفة لسكان الإقليم

أرسل إلى صديق

المعلومات التي تقدمها على هذه الصفحة لن تُستخدم لإرسال بريد إلكتروني غير مرغوب فيه، ولن تُباع لطرف ثالث. طالع سياسة الخصوصية.

لا يجد العلماء والباحثون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بياناتٍ حيويةً لاضطرابات التنكس العصبي تستند إلى عينات تعود أصولها إلى سكان المنطقة، حتى صار الأمر مصدر قلق لهم، ومؤرقًا لمجالس المتخصصين.

وحين يعمد باحثو المنطقة إلى تحليل بيانات اضطرابات التنكس العصبي لا يتوافر لهم سوى تلك المبنية على عينات ذات أصول أوروبية وأمريكية، الممثلة تمثيلًا جينيًّا غنيًّا كثيفًا لأفراد من الغرب في قواعد البيانات.

هذا الواقع لا يدع خيارًا أمام باحثي الإقليم؛ فغالبية دراسات الباحثين لا تستند إلى عينات منه؛ إذ تمثيل المجموعات العرقية غير الغربية في قواعد البيانات الحيوية، ومنها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تمثيل ضعيف فقير.

فمن جهة، يمثل هذا الضعف تهديدًا لمستقبل المنطقة الصحي؛ فهو يحد من القدرة على تعميم النتائج المستخلصة من هذا النوع من الأبحاث، ويحد من ترجمتها في الرعاية السريرية في مجموعاتنا السكانية شرق الأوسطية.

وإذ تعاني المنطقة ضعفًا في التمثيل في قواعد البيانات الجينومية، يعوق هذا الخلل -من جهة أخرى- تطوير الأبحاث الصحية المستهدفة لسكانها، ما يؤثر على إمكانية استخدام هذه البيانات في تطوير العلاجات لتقديم رعاية أكثر دقةً لمرضانا.

يقول سعيد إسماعيل مدير برنامج قطر جينوم: ”هناك أجزاء كبيرة من عالمنا ما زالت غائبةً عن تمثيلٍ مناسبٍ لحجمها، ومعظم المعلومات الوراثية التي تنتج في العالم تأتي إما من غرب أوروبا أو الولايات المتحدة أو من الشرق الأقصى، وبعض المشاريع الموزعة هنا وهناك حول العالم، والعرب ضمن أجناس أخرى غائبة عن هذا السباق العالمي العلمي المحموم“.

وبأخذ أمراض التنكس العصبي نموذجًا، نجد أنفسنا وجهًا لوجه أمام أحجية من طبقات يتراص بعضها فوق بعض، وأولى طبقاتها البيانات.

تحدي البيانات

يشير ’تقرير الوضع العالمي عن الاستجابة الصحية العامة للخرف‘ إلى أن المنشورات المفهرسة والمراجَعة من النظراء في قواعد بيانات الطب الحيوي وعلوم الحياة بمنزلة مؤشر على مقدار الأبحاث القائمة على مستوى العالم، ويمكن أيضًا استخدامها لتتبُّع مخرَجات الأبحاث في مختلِف مجالات الأمراض، وتشير هذه البيانات إلى أن ”نتائج البحوث بشأن الأمراض غير السارية مثل السرطان وأمراض القلب وأمراض الكلى والسكري والاكتئاب تزيد عن مثيلاتها المتعلقة بالخرف بما يناهز 14 مرة“.

تعمل قواعد البيانات الحيوية كمستودعات للمعرفة المشتركة المتعلقة بالدراسات البحثية وتقارير الحالة السريرية التي تسهم في معرفة تأثير علم الوراثة على صحة الإنسان، فضلًا عن الفهم الأساسي للاختلافات الجينية بين البشر، ويؤثر نقص البيانات الحيوية في المنطقة على إجراء التجارب السريرية الضرورية لتطوير العقاقير الجديدة والتحقق من سلامتها وفاعليتها على فئة بعينها من السكان؛ إذ تتطلب تلك التجارب جمع كمٍّ كبير من البيانات وتحليلها ومقارنتها، وغياب تلك البيانات يصعّب من إجراء هذه التجارب في الوطن العربي.

غالبًا ما يبدأ هذا النوع من الدراسات بنظريةٍ ما لاختبار دور بروتين معين في حيوانات التجارب، وتعقبها مرحلة ثانية للتحقق من صحة النتائج باستخدام دراسات سكانية لأعداد كبيرة من العينات البشرية، ويلجأ الباحث في تلك المرحلة إما إلى البنوك الحيوية أو إلى تجمع من الباحثين في عدد من المستشفيات مثلًا، أو إلى كيان مركزي مثل وزارة الصحة؛ لما لها من قدرات على النفاذ إلى ملايين المرضى، ومن هنا تأتي مشكلة صعوبة الحصول على بيانات ذات جودة عالية يمكن الوثوق بها، ويتباين الوضع في مختلِف دول المنطقة باختلاف أنظمتها الصحية ومقومات كلٍّ منها.

وفق أحدث بيانات منظمة الصحة العالمية، يعاني الخرف أكثر من 55 مليون شخص في العالم، يعيش أكثر من 60٪ منهم في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة، ويُتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 78 مليونًا بحلول عام 2030، ويُعد مرض ألزهايمر أكثر أنواع الخرف شيوعًا؛ إذ يُسهم في 60-70٪ من الحالات.

وبالرغم من ذلك فإن تسعة وعشرين دولة فقط يمكنها الإبلاغ عن معدل تشخيصها لمرض الخرف، وفق المرصد العالمي للخرف، وربع بلدان العالم فقط لديها سياسة أو إستراتيجية أو خطة وطنية لدعم الأشخاص المصابين بالخرف وأسرهم، ويقع نصف هذه البلدان في الإقليم الأوروبي لمنظمة الصحة العالمية.

تؤكد سهيلة الشبول، عضو هيئة التدريس في كلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، وسفيرة الجمعية الأمريكية للميكروبيولوجي في الأردن: ”لا توجد إحصائيات دقيقة عن معظم الأمراض التنكسية العصبية في الأردن مثل مرض الشلل الرعاش، وألزهايمر، وإصابات النخاع الشوكي الحادة، وغيرها“.

وتستطرد: ”ولا توجد حتى أبحاث دقيقة درست تلك الأمراض لتحديد مدى انتشارها، رغم وجود مراكز بحثية في الجامعات لكنها غير متطورة“.

وتتوافر بعض الإحصائيات الضئيلة المرتبطة بهذه الأمراض في لبنان، وفق أندريه إدمون مكربنه، رئيس قسم علم الوراثة البشرية في الجامعة اللبنانية الأميركية ومساعد عميد مركز الأبحاث.

وفي تونس تتجه التركيبة السكانية نحو التهرّم )زيادة نسبة المسنين(، حيث يصيب مرض ألزهايمر حوالي 10% من التونسيين الذين تجاوزوا سن الستين عامًا، وفق عفاف الهمامي، أخصائية في طب المسنين وألزهايمر.

تقول عفاف: ”العدد الحقيقي للمصابين في تونس قد يكون أكبر من ذلك، وعلينا مراعاة زيادة عدد المسنين وغياب الدراسات الوبائية الموسعة التي قد ترسم صورة واقعية لانتشار هذه الأمراض وتحدد أسبابها، لذلك فإن الجهود البحثية حول تلك الأمراض تعتمد في معظمها على عينات محدودة في ظل عدم وجود بيانات حقيقية واسعة“.

ولا يختلف الأمر كثيرًا في مصر، حيث يسهل على بعض الباحثين الحصول على عينات من أي مستشفى جامعي، لكن لن يمكنك الحصول على سجل تفصيلي ببيانات العينات وتاريخهم المرضي من قاعدة بيانات مستقرة، وفق محمد سلامة، الأستاذ المشارك في معهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية في القاهرة وزميل المعهد العالمي لصحة الدماغ.

وفي المغرب يصعب تحديد أكثر الأمراض التنكسية العصبية انتشارًا بدقة، نظرًا لنقص المعطيات سواءٌ الرسمية منها أو العلمية، ولكن أمراضًا مثل ألزهايمر والشلل الرعاش هي من الأمراض التنكسية العصبية الأكثر شيوعًا على مستوى العالم، وفق عبد السلام الإدريسي، الأستاذ في علم الأحياء والباحث في مركز علم الأعصاب التنموي بجامعة مدينة نيويورك.

ويستطرد الإدريسي: ”لتقديم مستهدف علاجي جديد أو علامة حيوية لأمراض التنكس العصبي المرتبطة بفئة سكانية محددة، يحتاج الباحثون إلى بناء قواعد بيانات محلية تتضمن عينات من هذه الفئة السكانية المحددة والتي تم تشخيصها بأمراض التنكس العصبي، ويضطر الباحثون العرب في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى قواعد بيانات أمريكية وأوروبية لدراسة بيانات أمراض التنكس العصبي؛ بسبب عدم توافُر قواعد بيانات محلية كافية ومناسبة“.

سيطرة أوروبية

في دراسة نُشرت عام 2009، تبين أن 96% من جميع دراسات الترابط الجينومي الكامل كانت لأشخاص من أصل أوروبي، وقد تحسن الوضع منذ ذلك الحين قليلًا، فأفادت دراسة في عام 2016 أن 81% من الدراسات نفسها كانت لأشخاص ينحدرون من أصل أوروبي.

النسبة الحقيقية للأوروبيين لا تزيد على 16% من سكان العالم، مما يشير إلى أن هناك حاجةً إلى إستراتيجيات جديدة لإيجاد حلول، ونظرًا إلى ما يمثله العالم العربي من تجمع وراثي فريد ومتنوع، فإن عدم وجود معلومات وراثية كافية يمكن أن يعوق تقدم أحد أهم مجالات الطب الحديث المعروف باسم الطب الدقيق، والذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تحليل كميات كبيرة من البيانات الحيوية، كما يعتمد على فهم شامل للتركيب الجيني الفريد للفرد.

من دون معلومات وراثية كافية، من الصعب تشخيص الأمراض وعلاجها بطريقة فعالة، ”كما أن جمع البيانات والتحاليل الحيوية أمرٌ شديد الأهمية، ليس فقط لمعرفة ماهية الأمراض المنتشرة ونسبتها بين السكان ومعرفة كيفية معالجتها وتخفيف الأعراض، بل يمتد الأمر إلى فوائد اقتصادية أيضًا“، وفق سهيلة.

سُحُب التنكس العصبي تمطر أعباءً

في مشهد فرضته ضبابية البيانات، يُثقل العبء الاقتصادي للأمراض التنكسية العصبية كواهل كثير من الأسر العربية، فالعديد من الدول تواجه صعوبة في تقديم الدعم الكافي للأفراد المصابين وأسرهم.

على الصعيد العالمي، قُدرت تكلفة الخرف بنحو 1.3 تريليون دولار أمريكي في عام 2018، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد الأشخاص المصابين بالخرف ثلاث مرات بحلول عام 2050، وتعاني البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من شيخوخة السكان بمعدل أسرع من البلدان المرتفعة الدخل، مما سيؤدي على الأرجح إلى زيادة في تمويل عبء الخرف لهذه البلدان.

ولهذا العبء الاقتصادي عدة جوانب، فمنها التكاليف الطبية المباشرة، وتشمل تكلفة الأدوية، والعناية المركزة، والعناية الطويلة الأجل، فالأمراض التنكسية العصبية عادةً ما تتطلب العديد من الأدوية، وقد تحتاج إلى العناية المركزة والعلاج الطبيعي، وكلها تكاليف مرتفعة.

ثمة أيضًا تكاليف غير مباشرة، تشمل الإنتاجية المفقودة للمريض والمعتني به، إذا كان المريض غير قادر على العمل -وهو ما يحدث غالبًا مع تقدم حالات الخرف- يُفقَد الدخل كذلك، لذا قد يحتاج أفراد الأسرة إلى أخذ إجازات عمل أو ترك العمل تمامًا لرعاية المريض.

يعلق الإدريسي: ”هناك عبء اجتماعي أيضًا، فالأمراض التنكسية العصبية لها تأثير كبير على جودة حياة المرضى وحياة أسرهم، وقد يحتاج المرضى إلى رعاية مستمرة، وقد تكون هناك حاجة إلى الدعم النفسي والاجتماعي“.

إن التحدي الأكبر في الدول النامية هو ضمان الوصول إلى الرعاية الصحية الكافية والميسورة لهؤلاء المرضى، ولا يخلو الأمر من نقص في الموارد الصحية، مثل الأطباء المتخصصين والمرافق الطبية والوعي، يقول مكربنه: ”تعتبر مساهمة الدولة في مساعدة مرضى التنكس العصبي في لبنان ضئيلة، ويعتمد المرضى على إمكانياتهم المادية الذاتية في مواجهة هذه الأمراض“.

تتعمق الفجوة بين ما تقدمه الدول وما يحتاجه مرضى التنكس العصبي وأسرهم القائمة على رعايتهم، ويسهم الانفصال بين الأنظمة الصحية والبحث العلمي في تعميق تلك الفجوة.

يعتقد سلامة أن الفجوة الحالية في مصر على سبيل المثال بين القطاع الصحي والباحثين غير مقصودة، ”تهتم المستشفى بتقديم بروتوكولات علاجية محددة ولا يهمها كل التفاصيل التي تهم الباحث، وعند اللجوء إلى وزارة الصحة للحصول على عينات، ستواجه صعوبات في الموافقة على ذلك، مما يضطر الباحث إلى صرف النظر والاكتفاء بنتائج أولية غير متحقَّق من صحتها بعينة سكانية“.

أسوار بين القطاع الصحي والبحثي

دائمًا ما تظهر فجوة كبيرة في كم التفاصيل التي يقوم الباحثين في منطقتنا بتجميعها عند التعاون مع باحثين أجانب، إذ تصبح بعض بياناتهم غير مؤهلة حتى لدخول التعاون بسبب غياب تفاصيل أساسية لا غنى عنها للدراسة، وفق سلامة.

يوضح سلامة: ”يعتقد البعض أن التشخيص كافٍ للبيانات، لكن التشخيص مجرد بند واحد من بنود عديدة، مثل مرحلة الإصابة، والصفات الظاهرية، والوزن، والحجم، والعمر، وغيرها الكثير، بينما تكتفي كثير من البيانات لدينا فقط بتحديد العينات المصابة من العينات السليمة، وهو أمر شديد السطحية قد يصلح في الدراسات الصغيرة، لا في الأبحاث الكبيرة والجادة“.

في الجزائر يتم جمع بعض البيانات في المستشفيات، وتخزّن سنويًّا في مركز وطني، وفق أمينة لمصارة، زميلة ما بعد الدكتوراة بالمستشفى الجامعي في جامعة هايدلبرج بألمانيا.

”لا توافق الجهات الوطنية على نشر البيانات مع الأوراق البحثية، وهو ما يمثل صعوبةً لدوريات النشر في تحديد جودة البيانات المستخدمة، مما يجعل الباحث أمام معضلة تكاد تصل إلى استحالة الاستفادة من تلك البيانات“.

وتستطرد: ”لذا فإن أنظمة تخزين المعلومات موجودة، ولكن التعاون مع الباحث يكاد يكون غير موجود، حتى القطاع الخاص يحتفظ بالبيانات لنفسه، وشهدت حالات تمكنت من استخدام تلك البيانات بطلب موجه إلى المراكز الخاصة، لكن لا يوجد تعاون بين القطاع العام والخاص في هذا الشأن“.

تروي أمينة: ”عملت شخصيًّا على مشروع خاص بكوفيد 19 في ألمانيا، حيث تشاركت عدة مراكز بحثية على مشروع لتهيئة بنية أساسية لتخزين معلومات المصابين بالمرض، لتنظيمها وإتاحة استعمالها، مما يمكِّن الباحثين من استخراج العلامات الحيوية لفهم الإصابات والتعامل معها، وفي الجزائر أيضًا ظهرت أبحاث عن كوفيد 19، لكني أستبعد أن تكون البيانات الحيوية قد حُفظت أو أن القوانين قد سُنت لتنظيم هذا العمل“.

من جانبه يوضح الإدريسي أنه بالرغم من أن الحكومة المغربية تدرك أهمية البحث العلمي، إلا أن الأموال لا تزال تذهب إلى التحسينات الأخرى في البنية التحتية الأساسية، مثل الطرق والمدارس والمستشفيات.

”والتعاون بين المستشفيات والقطاعات البحثية في الجامعات الأردنية مفقود بسبب البيروقراطية التي تتعلق بالموافقات على إعطاء عينات على سبيل المثال، والرفض في هذه الحالة يعوق عملية البحث“، وفق سهيلة.

في الجزائر، تُجمع البيانات يوميًّا بشكل روتيني، ولكن لا يستفيد منها الباحثون، ولا تُستغل بالشكل الأمثل، وفق أمينة.

”قد يستفيد القائمون على إدارة تلك المستشفيات والمختبرات من هذه البيانات لأغراضهم البحثية الشخصية، مثل تلك التي تخدم ترقياتهم، ولكن تبقى هذه البيانات محتكرة ولا يستفيد منها غيرهم“.

ترى أمينة أهمية دور المؤسسات الصحية في وضع القوانين المنظمة لجمع البيانات وتخزينها ونشرها، ومن ثم استخدامها، ”فتطبيق هذه الأنظمة هو ما أراه هنا في ألمانيا، فعند أي فحص، يوقع المريض على أوراق خصوصية المعلومات، فتُجمع بياناته للاستعمال في البحث العلمي، ثم يأتي دور الباحثين في استخدام تلك البيانات لاستخراج المعلومات والنتائج التي تساعد في تطوير العلاجات المختلفة“.

تتفق معها سهيلة؛ فالأطباء في الأردن غير قادرين على عمل الأبحاث، ”إذ لا يملكون الأسس لعمل الأبحاث، وما يتم غايته الترقيات فقط للأسف، ولذلك يجب أن تتوافر المراكز البحثية المتخصصة والتدريب المناسب لتأسيس جيل من الباحثين الأطباء لدراسة الأمراض التي تهم مجتمعاتهم“.

مراكز أبحاث عربية وترجمة غائبة

ثمة مراكز أبحاث عربية تقدم أبحاثًا جيدة، ولكن أغلبها يصعب تحويله إلى بحث يترجم إلى نتائج، والمجموعات القادرة على ذلك محدودة عربيًّا، وفق سلامة.

من جانبه يؤكد مأمون أهرام، الباحث في علوم بيولوجيا السرطان وأستاذ الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية بالجامعة الأردنية: ”هناك أبحاث من جامعات أردنية ومراكز بحثية ومراكز صحية مهتمة بإيجاد علامات حيوية لأمراض بعينها كما في مستشفى الجامعة الأردنية، ومركز الحسين للسرطان، والمركز الوطني للسكري والغدد الصم والوراثة“.

وتضيف سهيلة: ”حديثًا بدأ التركيز على دراسة أمراض التنكس العصبي في مركز الأميرة هيا للتقانات الحيوية في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، والذي بدأ مؤخرًا بعمل أبحاث عن تلك الأمراض ومدى ارتباطها بالجينات“.

”وقد تستخدم بعض المراكز البحثية الأخرى الخلايا الجذعية على نطاق ضيق كمحاولات علاجية لبعض هذه الأمراض“، وفق سهيلة.

أما أمينة فتقول: ”وفق معلوماتي لا توجد مراكز بحثية جزائرية مختصة بأمراض معينة، لكن يوجد المركز الوطني للبحث في البيوتكنولوجي الذي يحتوي على عدد من المختبرات البحثية المتخصصة في عدد من المجالات منها المجال الصحي“.

ويقدم المركز أبحاثًا تستهدف علامات حيوية محددة، لكنها ما زالت بسيطة ولم تصل بعدُ إلى مستوى التطبيق على أرض الواقع، بالإضافة إلى ذلك، توجد المختبرات التابعة للجامعات، لكنها على مسافة بعيدة من تطبيق مخرجاتها البحثية، وفق أمينة.

وفي لبنان توجد مراكز بحثية تهتم بتحديد الأسباب الجينية وتطوير العلاجات المستهدفة لبعض الأمراض الوراثية ومنها أمراض التنكس العصبي، وفق مكربنه.

يعتبر مختبر ’علم الوراثة البشرية‘ في الجامعة اللبنانية الأميركية من أهم هذه المراكز البحثية في لبنان، ويعمل على تحديد الأسباب الجينية لبعض الأمراض الوراثية في البلاد ومنها أمراض التنكس العصبي.

ويرتكز عمل مكربنه على البيانات المحلية الموجودة في المختبر، التي ترتبط بنحو 2000 مريض يعانون أمراضًا وراثية ومنها أمراض التنكس العصبي.

وفي مصر نجحت شيماء هيكل -باحثة في قسم التكنولوجيا الحيوية بالجامعة الأمريكية في القاهرة- بعد حصولها على الماجستير تحت إشراف سلامة، في الحصول على تمويل لعمل نموذج أولي لصناعة قاعدة بيانات تخص مرضى الخرف ضمن برنامج ’مئة دكتوراة لأفريقيا‘ الذي أطلقه المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا، وذلك تقديرًا لأبحاثها حول الخَرَف في مصر.

ستكون أبحاث شيماء هي المرحلة التجريبية لتطوير سجل الخرف للمرضى المصريين من خلال استهداف ثلاثة مواقع في مصر، والتي سيتم توسيعها في النهاية، يقول سلامة: ”نحاول حاليًّا بناء نواة شبكة لقاعدة بيانات موحدة تدعم البحث العلمي فيما يتعلق بالخرف“.

تقول شيماء: ”سنعمل على إتاحة قواعد البيانات للباحثين، لكن عبر استقبال طلباتهم وإتاحة المطلوب فقط، وذلك لحماية بيانات المرضى“.

وتضيف: ”ستساعدنا تلك البيانات على تحديد عوامل الخطورة المساهمة في الإصابة بالخرف في العينة المصرية، كما ستساعد صانعي السياسات على تحديد أولويات نفقاته الصحية“.

وتأمل شيماء أن يتكامل هذا الجهد مع نظام التأمين الصحي الشامل بمصر، ”ما رأيته في الدول الأخرى أن التكامل ضروري لخدمة المريض بالفعل“.

ريادة تونسية

وتُعد الحالة التونسية مثالًا فريدًا بالمنطقة لفوائد البيانات الحيوية والتحاليل للجماعات السكانية المختلفة، من خلال المعهد الوطني ’المنجي بن حميدة‘ لأمراض الأعصاب في تونس، والمسمى على اسم مؤسسه الأول في عام 1974، وهو أول معهد من نوعه في الوطن العربي يهتم بالدراسات والبحوث الحيوية حول الأمراض التنكسية، وفق فيصل الهنتاتي، مدير المعهد سابقًا.

يعتبر المعهد مركزًا رائدًا في مجال الرعاية الصحية والبحث الطبي في العالم العربي، ويقدم خدمات شاملة في مجال طب الأعصاب، ويتميز بدوره المهم في تشخيص الاضطرابات العصبية وعلاجها؛ إذ يضم مختبرًا متخصصًا في الوراثة العصبية، ويعمل على إجراء أبحاث حول الجينات المسؤولة عن العديد من الأمراض العصبية.

وبفضل مكانته كأكبر معهد لطب الأعصاب في تونس، يتصدر النشاط البحثي والعلاجي في هذا المجال في البلاد، فاز المعهد بجائزة الشيخ حمدان بن راشد للعلوم الطبية كأفضل مركز طبي في العالم العربي في دورة 2013-2014، نظرًا لإسهاماته البارزة في مجال الرعاية الصحية والبحث الطبي.

يقول الهنتاتي لشبكة SciDev.Net: ”تمكن المختبر من اكتشاف 13 جينًا مرتبطًا بعدد من الأمراض العصبية“.

من بين هذه الأمراض مرض الشلل الرعاش، إذ بدأ الهنتاتي وفريقه البحث عن الأسباب الجينية للمرض عام 1998 عندما كان الاعتقاد السائد عالميًّا أن هذا المرض ليس له أسباب وراثية، لكن اكتشف الفريق عكس ذلك خلال بحث ميداني واسع أُجري على عدد كبير من الأفراد ينتمون إلى العائلة نفسها.

وتمكن الفريق من اكتشاف جين مسؤول عن هذا المرض منتشر بقوة في تونس، ”حيث يحمل الجين واحد من بين كل ثلاثة أفراد، في حين لا تتعدى نسبة حامليه في أوروبا 2% فقط“، وفق الهنتاتي.

وقد أتاح هذا الاكتشاف مشاركة الباحثين التونسيين في البحوث الجارية حاليًّا لإيجاد دواء للوقاية من هذا المرض، من خلال تقليص عمل هذا الجين، مع عدد من مراكز البحوث والمخابر في الولايات المتحدة وبريطانيا.

لدى المعهد قواعد بيانات خاصة بالأمراض لتوحيد إجراءات متابعة المرضى، مثل قاعدة بيانات مرضى التصلب المتعدد وتحتوي على أكثر من 3000 مريض، وقاعدة بيانات مرضى الشلل الرعاش وتحتوي على أكثر من 1500 مريض، وتصنف باعتبارها واحدة من أكبر المجموعات في العالم لسجل المصابين بالشلل الرعاش.

كما يقدم المعهد أساليب محددة للتشخيص والوقاية للأسر التي تعاني من الأمراض العصبية الوراثية الشائعة، مما يوفر فرصًا للمرضى وأفراد أسرهم للحصول على استشارات وراثية عالية الجودة وفحوص ما قبل الولادة عند الحاجة إليها.

تحدي التمويل

يرى سلامة أنه حتى وإن توافرت المراكز البحثية، فعملية نشر البحث غير كافية للوصول إلى نتائج حقيقية تم التحقق منها، ولا يحدث ذلك إلا عبر الأبحاث السكانية من أجل تطوير علاجات أو مستهدفات فعلية.

يقول سلامة: ”ترجمة البحث إلى منتج هي عملية غير موجودة حتى الآن في القطاع الصحي المصري، ولا نمتلك تلك الإمكانيات؛ فالباحث يحتاج إلى تمويل ودعم كبير، كما يستلزم الأمر تعاونًا مع الصناعة وهو أمر نفتقر إليه أيضًا، فقليلة هي شركات الدواء المصرية التي تثق بالبحث العلمي الوطني وتدعمه“.

ويستطرد: ”إنما تميل إلى الاعتماد على نتائج الأبحاث الأجنبية، فتهيئ منتجاتها للتوافق مع السوق الأجنبي، وهو ما لا يصلح في حالات كثيرة لخصوصية المجموعات السكانية واختلافاتها بالمنطقة“.

من جانبها توضح أمينة: ”على المستوى الجزيئي والجيني، يحتاج الباحث إلى وسائل دقيقة وتقنيات مكلفة لاستخراج بيانات حيوية دقيقة“.

يتفق معها أهرام، ”فالباحث يحتاج في الأردن إلى أجهزة أكثر تطورًا“.

ثمة حاجة إلى التمويل الكافي لإنشاء بنوك حيوية بقاعدة بيانات قوية وتطوير جودة بياناتها وفحصها باستمرار وتهيئتها للاستخدامات البحثية، ويوجه فقط إلى المستشفيات المؤهلة لذلك.

كذلك يوضح مكربنه: ”يحتاج الباحثون إلى مزيد من المساعدات والمنح المادية في سبيل تطوير البحوث وإجراء الفحوص الجينية اللازمة؛ فعلى سبيل المثال، يتوافر لدى المختبر الموجود في الجامعة اللبنانية الأميركية التجهيزات البحثية والتقنية اللازمة، غير أن هناك حاجة إلى مزيد من الهبات المادية، خصوصًا في ظل الأزمة المالية وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية“.

لا يوجد في مصر تقريبًا إلا مستشفى سرطان الأطفال 57357 وبعض المستشفيات الأخرى على نطاق صغير التي لديها نظام لجمع البيانات، ومعظم المستشفيات لا تملك تلك القدرة ولا البنية التحتية اللازمة لجمع بيانات صحية مناسبة، وفق سلامة.

يرى سلامة أنه من المهم امتلاك المستشفيات العربية مقوماتٍ مقنعةً للهيئات الممولة، كنظام تسجيل إلكتروني دقيق يمر بمراجعة ومتعدد المراحل ويعمل عليه متخصصون في إدخال البيانات وإدارتها، وتوضع نتائج التحاليل في قواعد بيانات يسهل استرجاعها على نحوٍ يتناسب مع احتياجات الباحث، يمكن بعد ذلك نشر بعض الأبحاث الداعمة باستخدام تلك العينات، وتقدم قاعدة بياناتك في البحث ضمن عملية النشر للحُكم على جودتها.

يضيف سلامة: ”بمجرد معرفة مدى جودة بيانات تلك الأبحاث، سيسهل طلب تمويل، فما تقدمه أصبح مغريًا لهيئات التمويل الجادة، كما يجب مراعاة المنافسة على تمويل تلك الهيئات من مستشفيات أمريكا اللاتينية وآسيا وجنوب أفريقيا، التي تملك مقومات مغرية بالفعل تفتقدها مستشفياتنا، كما يجب أن تمتلك أكبر المستشفيات الحكومية والجامعية المصرية بنوكًا حيوية تحتفظ بعينات من كل المرضى وفيها قواعد بيانات قوية لبيانات المرضى خالية من الأسماء وتحمل كل التفاصيل“.

يمكن أن يساعد التعاون الدولي في تعزيز القدرة على توفير البيانات الحيوية للبحث العلمي، وفق الإدريسي، ”يمكن للمغرب التعاون مع دول أخرى في المنطقة العربية لتبادل الخبرات والمعلومات والبيانات والتعاون في تطوير البنية التحتية المشتركة للبحث العلمي“.

ويتفق معه مكربنه ويقول: ”يحتاج الباحثون بشكل عام إلى مزيد من التعاون والشراكات مع الخارج“.

أما أهرام فيرى ضرورة تدريب الكوادر البحثية على الأجهزة المتطورة القادرة على تحليل البيانات الضخمة والكشف على علامات متعددة، وعلى الوصول الأخلاقي إلى البيانات، ”كما نحتاج إلى تعاون المراكز البحثية لتمكين الباحثين من الوصول إلى البيانات بشكل أسهل“.

أضف إلى هذا ”ثقة المواطن ليشارك في هذا النوع من الأبحاث فيمنح بيانات دقيقة؛ لأنه يترتب عليها إيجاد علاج“، وفق أهرام.

من جانبها تؤكد أمينة ضرورة نشر ثقافة التطوع والتعاون من أجل البحث العلمي؛ فتثقيف المواطن أمر أساسي في هذا النوع من المشروعات.

وتضيف: ”كما يحتاج الباحث إلى قوانين واضحة تمكِّنه من استخدام البيانات دون الكشف عن المريض صاحب هذه البيانات“.

أصبحت البيانات اليوم أحد أثمن الأصول في العالم، ويمكن استخدامها لتحسين عملية صنع القرار وتحسين نظم الرعاية الصحية في مختلِف دول العالم، عبر اكتشاف مستهدفات علاجية جديدة، ومسببات الأمراض، ورفع دقة التشخيص، وخفض تكاليف تطوير العلاجات المناسبة.

يقول سلامة: ”أخشى أن يأتي وقت لا نجد فيه العلاج الخاص بنا ونضطر إلى استخدام علاج مخصص لبلدان أخرى؛ لأن أغلب بلداننا في المنطقة لم تدخل عصر الطب الشخصي بعد، ونحتاج إلى تغيير منظور المواطن وحتى بعض فئات العاملين في القطاع الطبي للبحث العلمي“.

هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا