Skip to content

31/12/22

عقبات أمام استدامة البنوك الحيوية في المنطقة

8688723570_0aae7872d2_k
حقوق الصورة:ILRI/Charlie Pye-Smith. CC license: (CC BY-NC-ND 2.0).

نقاط للقراءة السريعة

  • رغم كونها ثروة ضرورية، وتواضع بدايات البنوك الحيوية بالمنطقة، إلا أنها تعاني عدم الاستدامة المالية
  • للاستدامة وجوه أخرى، منها إدراك القائمين على البنوك ووعيهم بأهمية دورها وطبيعته وخصوصيته
  • دعم استدامة البنوك الحيوية بالمنطقة هو أساس لدعم استدامة البحوث العلمية والتطور الطبي

أرسل إلى صديق

المعلومات التي تقدمها على هذه الصفحة لن تُستخدم لإرسال بريد إلكتروني غير مرغوب فيه، ولن تُباع لطرف ثالث. طالع سياسة الخصوصية.

منذ أكثر من قرن دأب العلماء على جمع عينات بشرية وفهرستها وحفظها لأغراض بحثية أو دراسية أو إبقائها مرجعًا للحالات الطبية.

وبمرور الوقت، تضخمت البيانات الحيوية وتنوعت في النصف الثاني من القرن الماضي، ثم ما لبثت الأبعاد الأخلاقية المتعلقة بها أن تعقَّدت، وزادت الحاجة إلى تمكين التعاونات عبر إتاحة البيانات للباحثين على نطاق أوسع.

على إثر ذلك، نشأت البنوك الحيوية باعتبارها كياناتٍ تُعنى بجمع العينات والبيانات السريرية والمختبرية المتعلقة بها، وفق ضوابط علمية وأخلاقية، ومن ثم العمل على إتاحتها للاستخدام البحثي.

والآن، تشهد البنوك الحيوية حول العالم تطورًا كبيرًا، مدفوعًا بالتطور المتسارع لعلوم الوراثة وتقنياتها، ومع ذلك لا يحظى هذا النوع من البنوك بالقدر نفسه من الاهتمام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارنةً بالدول المتقدمة.

إلا أنه في السنوات الأخيرة أُنشئت العديد من البنوك الحيوية بأنواعها المختلفة في عدد من دول المنطقة، مثل مصر والأردن والسودان وقطر وتونس والمملكة العربية السعودية، بيد أنها تصطدم بالعديد من العقبات التي تحد من تطورها واستدامتها.

الثروة الضرورية

يصف ماهر الصغير -رئيس ومدير قسم المختبرات وعلم الأمراض بمركز الحسين للسرطان بالأردن- البنوك الحيوية بأنها ”ثروة وطنية“.

ويوضح في حديثه لشبكة SciDev.Net أن توافُر عينات عالية الجودة من المنطقة يعني إمكانية فهم الطبيعة الجينية لسكان المنطقة وارتباطها بالأمراض المنتشرة لدينا، ومن ثم بحث أفضل سبل التشخيص والعلاج، وهو أمرٌ لا يمكن تحقيقه في حال اعتمادنا على بنوك حيوية خارج بلداننا.

ومن حيث إن ”سكان المنطقة من الأقل تمثيلًا في قواعد البيانات الجينومية العالمية“، كما يقرر أحمد سمير، مدرس بقسم الباثولوجيا الإكلينكية بالمعهد القومي للأورام في مصر وعضو بالفريق المؤسس للبنك الحيوي بالمعهد.

فإن ”زيادة جمع تلك البيانات وتنظيمها عبر نمو البنوك الحيوية في المنطقة ستزيد فرص التعاون البحثي الدولي والإقليمي، بما يعود بالنفع على الباحثين والعامة على حدٍّ سواء“.

 وإذا كانت جودة المُخرَج والمُدخَل متلازمتين، فإن نهلة عفيفي -مديرة قطر بيوبنك– في حديثها لشبكة SciDev.Net تؤكد أهمية البنوك الحيوية وتقول: ”هي ضمانة لجودة الأبحاث العلمية، إذ تعتمد تلك البنوك أساليب قياسية لضمان الجودة في مرحلة جمع العينات وحفظها ونقلها“.

ومسألة الجودة هذه هي شاغل رانيا لبيب، رئيس المستودعات الحيوية وأبحاث الكيمياء الحيوية بمستشفى سرطان الأطفال ’‘57357 في مصر، إذ تبدأ بالإشارة إلى مفهوم الإتاحة ودعم الباحثين بمختلف تخصصاتهم، وتوضح أن فكرة جمع العينات البشرية في حد ذاتها لا تُعد حديثةً على المنطقة، ففي مصر على سبيل المثال يتعاون بعض الباحثين مع بعض الجراحين أو متخصصي علم الأمراض لتوفير عينات بشرية لهم.

ومنها تخلص إلى أن ”ذلك النشاط يحد من وسائل ضبط جودة العينات، كما يحد من عدد الباحثين القادرين على الوصول إلى عينات لإجراء أبحاثهم“.

والحال ممتدة على استقامتها في معظم أرجاء المنطقة، إذ يشير باحثون من البنك الحيوي بالمركز الإيراني لسرطان الثدي في طهران إلى أن الوصول إلى عينات بشرية كان محدودًا للعديد من المراكز البحثية في العاصمة، التي لا تتضمن مرافق سريرية مثل معهد باستور وجامعة طهران، وعليه دعمت الشبكة الإيرانية للطب الجزيئي إنشاء بنك حيوي، بهدف إتاحة عينات بشرية للأغراض البحثية لمختلِف الباحثين.

بدايات متواضعة

خلال العقد الماضي، ازداد نمو البنوك الحيوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا أن أغلبيتها لا تزال تعمل بوصفها مراكز صغيرة ضمن جامعات أو مؤسسات صحية، وتعاني من تحديات قد تعوق استدامتها.

يقول مأمون أهرام، أستاذ علم وظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية في كلية الطب بالجامعة الأردنية: ”ما زالت هناك فروق كبيرة بين البنوك الحيوية في المنطقة ونظيراتها العالمية“.

”في المنطقة ما زلنا في البدايات، وبداية أعتقد أنها ما زالت متواضعة، إذ ينقصنا التدريب الفني والإدراي والوعي الجمعي والتمويل المناسب“، وفق مأمون، الذي عمل على دراسة البنوك الحيوية في المنطقة خلال العقد الماضي.

الاستدامة المالية

يستوجب تعريف الاستدامة المالية أن يكون للمشروع أموال كافية للوفاء بجميع التزاماته المالية وتلبية موارده حتى في حال انقطاع تمويله.

بطبيعة الحال، فإن إنشاء بنية تحتية مناسبة لحفظ عينات عالية الجودة ونظام معلوماتي منظم ومتين لحماية البيانات المرتبطة بها، يتطلب تكلفة مرتفعة، لذلك فإن أغلبية البنوك الحيوية في المنطقة ما زالت تعاني في محاولاتها لتحقيق استدامتها المالية.

يشير سمير إلى أن أغلبية البنوك الحيوية تنجح في الإطلاق بعد حصولها على منحة مالية تكفي الإنشاء، ”لكن فور انقطاع المنحة أو نفادها يبدأ أغلبها في التعثر“.

في دراسة نُشرت بدورية ’بي إم سي أخلاقيات الطب‘ في شهر أغسطس الماضي، حاور سمير والباحثون ثمانية من مديري البنوك الحيوية في مصر والسودان والأردن، وتبيَّن أن جميعهم يواجه تحديات مالية بسبب محدودية التمويل الأولي، وندرة الموارد المالية، كما لم يكن لدى أيٍّ منهم خطة عمل فيما يتعلق بالاستدامة المالية.

ردود مشابهة حصلت عليها شبكة SciDev.Net من مديري البنوك الحيوية الذين حاورتهم.

يشير غلام رضا روشانديل -أستاذ مساعد في جامعة كلستان للعلوم الطبية بإيران، والذي أسهم في إنشاء بنك حيوي للسرطان بمحافظة كلستان شمالي إيران- إلى أنه ”نظرًا إلى أن البنك الحيوي للسرطان بكلستان تم تصميمه وتمويله باعتباره مشروعًا بحثيًّا، فإن الافتقار إلى الدعم المالي المستمر يمثل تحديًا كبيرًا لنا، وقد تتأثر استمرارية البنك بمجرد انتهاء تمويل المشروع“.

أما الصغير فيقول إن إنشاء البنك الحيوي بمركز الحسين للسرطان ”اعتمد على منحة بقيمة نصف مليون يورو حصلنا عليها عام 2013 من الاتحاد الأوروبي“، مشيرًا إلى أن أحد أبرز التحديات التي تواجههم هو نقص التمويل المناسب للاستمرارية.

يوضح الصغير أن تلك الأزمات يتشاركها أغلب مديري البنوك في الدول منخفضة الدخل والمتوسطة بالمنطقة، وخلافًا للبنوك الحيوية القائمة بذاتها كمؤسسة بحثية في دول المنطقة الغنية، يقبع العديد من البنوك الأخرى بالمنطقة ضمن مؤسسات صحية، وفي سلم الأولويات، يأتي دعم البحث العلمي والبنوك الحيوية بالضرورة بعد تلبية حاجات المرضى الأساسية.

عملت رانيا مع نموذجين للتمويل خلال مسيرتها، ففي مستشفى 57357 اعتمدت على المنح والتبرعات المخصصة للبحث العلمي.

والتحدي الذي يطرحه هذا النموذج هو أن على مديري البنوك العمل باستمرار ليثبتوا للجهات المتبرعة أن استثمارهم يؤدي إلى مخرجات بحثية عالية الجودة، وفق رانيا.

ثمة دراسة نُشرت عام 2020 بدورية ’منظور السياسة‘، تدعم أهمية التركيز على مخرجات البنك الحيوي باعتبار ذلك منهجيةً لإيضاح قيمته للمستثمرين وأصحاب المصلحة بما يدعم استدامته، ومع ذلك تؤكد صعوبة جمع البيانات الداعمة للمخرجات، ففي حين تتعامل البنوك الحيوية مباشرةً مع الباحثين لتوفير العينات، إلا أنه قد تمر بضع سنين حتى نشر الأوراق البحثية، وفي أحيان كثيرة لا يُبلغ الباحثون البنك الحيوي بمنشورهم، مما يصعِّب على البنك تتبُّع المخرجات البحثية القائمة على عيناته.

أما النموذج الثاني، والمتمثل في البنك الحيوي بمستشفى بوسطن الأمريكية الذي تديره رانيا حاليًّا، فإنه يتحصل على رسوم من الباحثين مقابل الخدمات التي يقدمها لهم، ويُعَد هذا النموذج شائعًا في عدة بنوك على مستوى العالم.

وقد قدمت بعض الفرق البحثية بعض الأدوات التي قد تساعد البنوك الحيوية في تقدير قيمة خدماتها على نحوٍ يتمتع بالشفافية لضمان استدامتها.

يتمنى كلٌّ من رانيا والصغير نجاح هذا النموذج في المنطقة، إلا أنهما يشيران إلى أنه حال تطبيقه سنصطدم بأزمة ضعف موازنات البحث العلمي في المنطقة، وهو ما قد يحد من عدد الباحثين القادرين على الاستفادة من خدمات البنوك الحيوية، ولذلك يتفق كلاهما على أن ”تحسين موازنات البحث العلمي ووضع في العموم بالمنطقة سيتيح للبنوك الحيوية النمو والاستفادة من نماذج استدامة مختلفة“.

للاستدامة أوجه مختلفة

حصر مفهوم استدامة البنوك الحيوية في الجانب المالي قد يكون قاصرًا ومربكًا، سواء للممولين أو غيرهم من أصحاب المصلحة، كما يشير فريق دولي من الباحثين في دراسة نُشرت عام 2014 بدروية ’الحفظ الحيوي والبنوك الحيوية‘.

ويشرح الفريق أن البنك الحيوي يختلف عن أي مؤسسة بحثية أخرى؛ لأن نشاطه معقد ويتضمن عدة فئات من أصحاب المصلحة، فهناك المتبرعون بعيناتهم وبياناتهم للبنك، والطواقم الطبية التي تُسهم في جمع تلك العينات، ومن ناحية أخرى يتولى مديرو البنوك الحيوية والعاملون فيها تنظيم تلك العملية والتأكد من اتساقها والأسس العلمية والأخلاقية لها، ومن ثم تسهيل سبل إتاحة العينات والبيانات للباحثين بمختلِف تخصصاتهم.

ويعتمد نجاح البنك الحيوي على وعي كل أصحاب المصلحة بأهمية نشاطاته، والعمل على تحقيق الفائدة المرجوة لكل الفئات، لذلك قد يُعد نقص الوعي بدور البنوك الحيوية أو المفاهيم المرتبطة بها بين أصحاب المصلحة عائقًا أمام نمو البنوك الحيوية في المنطقة.

يحكي سمير أنه بعد انتهائه من تقديم محاضرة ضمن ورشة عمل لمجموعة من الباحثين والأطباء عن أحد أبحاثه المتعلقة بالبنوك الحيوية، وقف أحد الحضور ليسأله: ”ما هي البنوك الحيوية؟“.

يعكس ذلك محدودية انتشار مفهوم البنوك الحيوية بين قطاعات مهمة من أصحاب المصلحة، كالأطباء والباحثين.

تحدث بعض مديري البنوك الحيوية العرب عن التحديات في الدراسة المنشورة بدورية ’بي إم سي أخلاقيات الطب‘، ويشير إلى أن إقناع متخصصي علم الأمراض بتوفير العينات كان بمنزلة تحدٍّ، إذ ”اعتقد البعض مفاهيم مغلوطة، منها ملكيتهم الخاصة للعينات“.

كذلك يشير باحثون من البنك الحيوي بالمركز الإيراني لسرطان الثدي إلى أن اهتمام الجراحين بالعلوم الأساسية كان محدودًا، لذلك كان إقناعهم بالمشاركة في جمع العينات شديد الصعوبة.

توضح رانيا أن بناء علاقة مبنية على الثقة بين مديري البنوك والطواقم الطبية قد يكون أكثر سهولةً عندما يكون البنك الحيوي جزءًا من مؤسسة صحية، إذ يسهِّل ذلك التواصل بين الفئتين لتصحيح المفاهيم المغلوطة، والعمل على تحقيق الفائدة لكل الأطراف.

ومع ذلك، فإن استباناتٍ أُجريت بين الطواقم الطبية وطلاب التخصصات الطبية في كلٍّ من المغرب ومصر والسعودية وجدت قبولًا واسعًا لفكرة التبرع وإتاحة العينات للبنوك الحيوية، رغم تبيانها محدودية معرفتهم بها.

فمن بين 600 من الطواقم الطبية بشرق المغرب، تجاوزت نسبة قبول خدمة البنوك الحيوية 80%، رغم أن أكثر من ثلثيهم تقريبًا لم يكن له معرفة سابقة بها، وقاربت نسبة القبول 90% في استبانة ضمت قرابة 600 من طلاب التخصصات الطبية في السعودية، رغم عدم تجاوُز العارفين بالبنوك الحيوية ربع المشاركين.

نتائج مشابهة تحصلت عليها استبانة بين أكثر من 200 طبيب في مصر، رغم أن قرابة النصف فقط كان على دراية بوجود البنوك الحيوية في دولته.

يعلق سمير: ”عملية جمع العينات والبيانات المرتبطة بها قد تكون مرهقةً للطواقم الطبية، ومع زيادة معرفتهم بالبنوك الحيوية وأهميتها قد تزداد نسبة القبول“، خاصةً أن العديد من متخصصي علم الأمراض المشتغلين بالبحث العلمي يحتاجون إلى عينات وبيانات ذات جودة عالية لإتمام أبحاثهم.

أما الباحثون، فتشير عدة دراسات إلى أن إقبالهم على استخدام العينات والبيانات المتوافرة في البنوك الحيوية عالميًّا لا يزال محدودًا للغاية، في حين لا تتوافر بيانات موثوقة عن مدى إقبال الباحثين في المنطقة على التعامل مع البنوك الحيوية.

ووفق استبانات أُجريت بين الباحثين في أمريكا وألمانيا فإن أسباب عزوفهم تشمل ارتفاع سعر خدمات البنوك الحيوية، وعدم توافر العينات التي يحتاج إليها الباحثون أو صعوبة الوصول إليها.

وأعرب الباحثون ممن تحدثت إليهم شبكةSciDev.Net عن صعوبات خاصة تعرقل تعاملهم مع البنوك الحيوية في المنطقة.

يقول هاني الحضرمي، أستاذ التشخيص الجزيئي المساعد بقسم تقنية المختبرات، كلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة الملك عبد العزيز في السعودية: ”في أغلب الأحيان لا توجد آلية واضحة للوصول إلى العينات والبيانات المرتبطة بها“.

ويعتمد تخصص الحضرمي على توافُر العينات عالية الجودة ليتمكن من اختبار علاجات محتملة أو آليات تشخيصية لبعض الأمراض.

و”العديد من البنوك الحيوية في المملكة لديها كمٌّ كبير من العينات ذات القيمة، إلا أن غياب الشفافية والآليات الحاكمة للوصول إلى العينات في بعض البنوك يدفعه إلى إجراء اختباراته خارج البلاد“.

يؤكد الحضرمي أن غياب الشفافية قد يوفر بيئةً خصبةً لممارسات غير أخلاقية من بعض مديري البنوك الحيوية.

أما محمد سلامة -أستاذ مشارك بمعهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية في القاهرة- فيرى أن أحد الأسباب المحتملة لعزوف الباحثين عن بعض البنوك الحيوية في المنطقة هو عدم توفيرها لبيانات تفصيلية، رغم توفيرها لعينات عالية الجودة.

ويوضح أن توافُر بيانات تفصيلية إلى جانب العينات هو الأساس الذي يعتمد عليه الباحث للوصول إلى نتائج مهمة، مشيرًا إلى أن الاهتمام بجمع العينات دون ربطها ببيانات تفصيلية هو أزمة مر بها بعض البنوك الحيوية في دول متقدمة في وقت سابق، ولذا لزم تدارُكها في وقت مبكر في البنوك الناشئة بالمنطقة.

أما السبب الثاني -وفق سلامة- فهو تخوف بعض الباحثين من الجانب الأخلاقي؛ ففي حين يتم تسليم الموافقات التي حصل عليها البنك من المتبرعين للباحث، يبقى التساؤل: هل تم إعلام المتبرع بأبعاد الدراسات التي قد تتم اعتمادًا على عيناته وبيانته أم لا؟

إلا أنه يعود فيؤكد أن نمو البنوك الحيوية في المنطقة سيكون حافزًا فعالًا لتحسين جودة البحث العلمي في المنطقة.

يتفق معه نبيل أحمد -أستاذ زراعة نخاع العظم بكلية بايلور للطب بأمريكا، واستشاري بمؤسسة مستشفى سرطان الأطفال 57357- ويقول: ”يمكن للبنك الحيوي أن يوفر للباحث آلاف العينات، وهو جهد لا يستطيعه فريق بحثي منفردًا“.

ويوضح أن إحدى المشكلات قد تكون في صعوبة الإجراءات المطلوبة وتعقيدها قبل حصول الباحث على العينات، وهو ما قد يدفع بعض الباحثين إلى اتخاذ طريق أقصر عبر جمع عينات أقل، وربما أقل جودة، بما يؤثر في النهاية على منتجه البحثي.

يعتقد نبيل أن تعقيد الحصول على العينات قد يكون مرتبطًا بالقيود التي تضعها القوانين في بعض دول المنطقة على مشاركة العينات والبيانات، ويقترح أن تهتم البنوك الحيوية بتحسين عملية الوصول ونمذجة خدماتهم وفق احتياجات الباحثين، بما يضمن استدامتها.

تحدٍّ آخر تشير إليه رانيا: ”أحد التحديات التي نواجهها والتي لا يسلَّط عليها الضوء دائمًا هو نقص خبراء الأنظمة المعلوماتية“، وتوضح أنه مع توافُر الخبرات والدعم الكافي يمكن إنشاء نظام معلوماتي يسجل العينات ويربطها بالبيانات المتعلقة بها، وفي الوقت نفسه يسهل سحب البيانات للباحثين المصرح لهم.

وتعلق نهلة أنه حتى عند توافُر دعم مادي وافٍ قد تواجه البنوك الحيوية تحدياتٍ في الحوكمة، فالوقوف على المسافة نفسها من كل المؤسسات البحثية هو توازن مطلوب، ويصعب تحقيقه في بعض الأحيان.

بناء الثقة

كان لجائحة كوفيد-19 دورٌ كاشف لأهمية بناء الثقة بين العامة من ناحية والعلماء والجهات الصحية من أخرى، إذ كان لالتزام المجتمع بالقواعد الصارمة للتباعُد الاجتماعي التي سنَّتها الجهات الصحية، وقبول اللقاحات المصنعة حديثًا دورٌ أساسي في تجاوز الأزمة.

على نحوٍ مشابه، يرتكز نجاح البنوك الحيوية واستدامتها على ثقة المرضى والأشخاص الأصحاء الذين يتبرعون بعيناتهم وبياناتهم لخدمة البحوث الطبية.

تبين الدراسات التي أجريت في مصر والأردن وقطر والسعودية والمغرب معرفةً محدودةً جدًّا بين العامة بالبنوك الحيوية، رغم ذلك كانت نسبة قبول فكرة التبرع للبنوك الحيوية مرتفعةً في جميع الاستبانات.

لكن أهرام يدعو إلى أهمية توخي الحذر عند قراءة نتائج تلك الدراسات، إذ تختلف مخرجاتها وفق العديد من العوامل، منها وقت إجراء الاستبانة، وخلفية العينة المستهدفة ومنهجيتها.

والدراسة التي نُشرت في شهر ديسمبر الجاري بدورية ’بي إم سي أخلاقيات الطب‘ تقدم نتائج أقل إيجابية، فمن بين قرابة ألف متطوع من مصر والسودان والأردن والمغرب استُطلعت آراؤهم حول البنوك الحيوية، لم تتعدَّ نسبة قبول التبرع بالعينات والبيانات الطبية 10% من مجمل المشاركين.

أما أسباب ذلك الامتناع فقد كان الخوف على خصوصية بياناتهم عاملًا أساسيًّا، إذ كان لدى نسبة مرتفعة من المشاركين قلة ثقة بالأطباء والباحثين ومديري البنوك الحيوية.

أهرام، وهو الباحث الأول في الدراسة، يشير إلى أن أسباب التبايُن بين نتائجها ونتائج الدراسات السابقة قد تعود إلى عاملين: أولهما اختلاف المنهجية المتبعة، فإجراء الاستبانة مع المشاركين مباشرةً قد يدفع بعض المتطوعين إلى الإجابة بما يعتقدون أنه قد يرضي الباحثين، على عكس نتائج الاستبانات التي تُجرى عبر الإنترنت.

أما السبب الثاني فهو أن الاستبانة الأخيرة أُجريت في بداية جائحة كوفيد-19، وهي فترة زاد فيها معدل التشكك في البحوث العلمية؛ لانتشار المعلومات المغلوطة، واتساع الفجوة بين العلماء والعامة؛ إذ لم تتوافر في كثير من الأحيان سبل تواصل مباشرة بينهم.

ويستطرد أهرام: ”زيادة الوعي بالبحوث الطبية والبنوك الحيوية قد تكون عاملًا مؤثرًا في زيادة قبول فكرة التبرع، وعليه من المهم توفير معلومات وافية في المناهج الدراسية عن آليات البحث العلمي، وأن يتيح الإعلام للعلماء فرصةً للتواصل المباشر مع الجمهور“.

ووفق استبانة ضخمة أجراها فريق دولي من الباحثين ونُشرت نتائجها عام 2020، فإن المعرفة بعلوم الوراثة والبيانات الجينية لا تزال منخفضةً حول العالم، والدراسة التي ضمت أكثر من 36 ألف مشارك من 22 دولة بينت أن اقتران الوعي بالثقة في مستخدمي البيانات يزيد من استعداد المشاركين للتبرع ببيانتهم، بينما توضح دراسات أخرى أن توافُر المعرفة بالبيانات الوراثية مع غياب الثقة بالمؤسسات المسؤولة عنها قد يكون عاملًا لزيادة التشكك لدى العامة.

ونسبة الثقة بالأنظمة الصحية والرضى عن أدائها تتباين تبايُنًا واسعًا في المنطقة، إذ تبين الاستبانات التي أُجريت إبان جائحة كوفيد-19 انخفاض ثقة العامة بالأنظمة الصحية لبلدانهم في كلٍّ من إيران ولبنان وأغلب دول شمال أفريقيا، في حين كان مستوى الرضى عن أداء الأنظمة الصحية مرتفعًا بين العامة في دول الخليج العربي.

تعلق نهلة: ”من العوامل المؤثرة في قبول العامة للتبرع للبنوك الحيوية ثقتهم بالنظام الصحي، وهي من العوامل الرئيسة التي ساعدتنا في مشروع بنك قطر الحيوي“.

وتضيف: ”عملنا على تعزيز تلك الثقة أيضًا من خلال توفير خدمة طبية للمشاركين، إذ يُجري الطاقم الطبي فحصًا شاملًا لهم، ثم يسلمهم نتائج تلك الفحوص“.

بنك قطر الحيوي هو أحد النماذج القليلة في المنطقة للبنوك الحيوية السكانية، إذ يهدف المشروع إلى جمع عينات وبيانات طبية من 60 ألف متطوع بهدف دراسة الأمراض المزمنة في قطر والخليج العربي.

إلا أن توفير خدمة صحية لزيادة ثقة المتبرع قد لا يكون مناسبًا لكل أنواع البنوك الحيوية، من وجهة نظر رانيا، فهي قد تكون مناسبةً للبنوك الحيوية التي تعمل على مستوى السكان، إذ إنها بطبيعتها لا توفر خدمة صحية للمتبرعين، وأغلبهم من الأصحاء، ”أما في حالة كون البنك جزءًا من مؤسسة صحية، فإن ربط توفير الخدمة للمريض مقابل التبرع قد يُعد عملًا تحوطه شبهة غير أخلاقية“.

تقول أمل مطر، الباحثة، ومديرة مشروع بمركز أخلاقيات البحث والأخلاقيات الحيوية بجامعة أوبسالا السويدية لشبكة SciDev.Net: ”إن كانت الثقة هي العامل المحدد، فإن بناء نظام أخلاقي ذي شفافية هو السبيل لتأسيس علاقة ثقة مع المتبرع“.

وليس لدى العديد من البلدان أي لوائح أو مبادئ توجيهية وطنية تتعلق تحديدًا بالبحوث التي تتضمن البشر، في حين تغيب القواعد التفصيلية لآلية عمل البنوك الحيوية في بعض الدول التي وضعت قواعد للبحوث الطبية والسريرية.

رغم أن الأردن متقدم نسبيًّا في سَن قواعد حاكمة للبحوث الطبية، إذ يعود قانون البحوث السريرية فيه إلى بداية الألفية، إلا أنه لا يؤطر تفصيليًّا لكيفية التعامُل مع العينات البشرية، وفق أهرام.

ولم يُسن قانون حاكم للبحوث السريرية في مصر حتى عام 2020، لذلك اعتمدت البنوك الحيوية التي أُنشئت قبل دخول القانون حيز التنفيذ على القواعد والإرشادات الدولية.

أما المغرب الذي سن قانونًا لبحوث الطب الحيوي عام 2015، فيشير باحثون من البنك الحيوي بشرق البلاد إلى أنه لم يفصل لبعض الآليات الخاصة بالبنوك الحيوية، ولذلك اعتمد القائمون على البنك أيضًا على إرشادات وتشريعات خاصة بدول غربية مثل فرنسا وألمانيا.

تشير أمل إلى أن وجود قانون حاكم يزيد القدرة التنظيمية والشفافية في إجراء البحوث الطبية ونشاط البنوك الحيوية، كما أن الاعتماد على الإرشادات الدولية قد يغيب عنه مراعاة الخصوصية الثقافية الخاصة بشعوب المنطقة.

ففي حين تنص كل القواعد الدولية على أهمية الموافقة المستنيرة للفرد قبل خضوعه أو تبرعه بعينات لصالح بحوث طبية، إلا أن آلية تطبيق ذلك قد تختلف وفق البعد الثقافي.

تبين دراسة أُجريت في قطر بهدف فهم أفضل سبل الحصول على الموافقة للبحوث الطبية في الخليج العربي، أن النساء ذوات الخلفية الثقافية العربية كنَّ أكثر تمسكًا بمناقشة الأمر مع أزواجهن وذويهن قبل المضي قدمًا للمشاركة في البحوث، وتُظهر استطلاعات أخرى أن الموافقة الكتابية بما تحويه من مصطلحات طبية متعددة قد تثير الشك لدى بعض الأفراد.

ويشير باحثون من إيران إلى أن التحدث مع رجال الدين والمسؤولين الصحيين قبل الحصول على الموافقة المستنيرة من الأفراد وإتاحة الفرص لهم لمناقشة مشاركتهم مع ذويهم، كان إحدى السبل الفعالة لكسب ثقة أفراد بمجتمعات نائية ذات مستوى تعليمي منخفض، وطمأنتهم للمشاركة في البحوث.

تؤكد أمل أن ”مراعاة خصوصية كل مجتمع واجبة، بشرط أن تكون مكملةً لموافقة الفرد المتطوع، لا أن تتجاوزها“.

وتضيف أمل: ”على القوانين أيضًا أن تؤطر لسبل مشاركة البيانات وحمايتها، بما قد يسهم في ترجمة المعلومات التي تحفظها البنوك إلى تطبيقات طبية دون حدوث خروقات في استخدام بيانات المتطوعين“.

بيانات حبيسة

تتحقق الفوائد المرجوة من البنوك الحيوية عندما يستخدمها الباحثون للوصول إلى نتائج ذات تطبيقات طبية، إلا أن مشاركة العينات والبيانات -خاصةً خارج حدود البلاد- تُعد مثارًا للجدل بين بعض الفئات من أصحاب المصلحة بالبنوك الحيوية في المنطقة.

يوضح فهد الملا -أستاذ علم الأمراض الجزيئي وطب الجينوم في جامعة الكويت- أن تحليل البيانات الوراثية والوصول إلى الطفرات التي قد تكون سببًا في بعض الأمراض قد لا يكون ممكنًا من دون مقارنة البيانات المحلية بنظيرتها في دول أخرى، ويصك الملا مصطلح ’الجينومات الحبيسة لوصف التقييد الزائد لمشاركة البيانات الوراثية في الدول العربية.

ويشترط القانون المغربي في حال التعاون الخارجي وجود ممثل محلي من الباحثين، أما مصر فتحظر إرسال العينات البشرية إلى الخارج دون موافقة الجهات الأمنية، وفي قطر لا يُسمح بإرسال العينات إلى الخارج، لكن مشاركة البيانات ممكنة شرط أن يكون الباحث الرئيس داخل الدولة، وفق نهلة.

تسلِّم أمل بأنه من الطبيعي أن يكون لكل دولة تشريعاتها الخاصة لحماية البيانات، خاصةً الوراثية، وتوضح أن للبيانات الوراثية حساسيةً خاصة؛ فهي لا تخص المتبرع وحده بل أيضًا أقاربه، إضافةً إلى ذلك، فبخلاف البيانات الطبية الأخرى لا توجد وسيلة لإزالة التعريف عنها، وتشير دراسات إلى أن تتابعًا قصيرًا من المادة الوراثية قد يكون كافيًا لإعادة تعريف الفرد.

ولذلك تضيف أمل: ”الحل لا يجب أن يتم بتقييد وصول الباحثين، إنما أن تشدد القوانين على عدم وصول البيانات إلى جهات غير مصرح لها ولا تُعنى بالبحث، سواء كانت داخل الدولة أو خارجها، ومن ناحية أخرى يمكن أن تشترط الاتفاقيات وعقود التعاون مع الباحثين خارج البلاد على سبل لتقاسم المنفعة من المخرجات البحثية والطبية“.

يشير سمير إلى أن ”تسهيل سبل تحقيق المنفعة من مخزونات البنوك الحيوية هو واجب أخلاقي تجاه الأفراد ممن تبرعوا بأجزاء من أجسادهم لخدمة البحوث العلمية“، كما هو سبيل لإثبات أهمية البنوك الحيوية للممولين وأصحاب المصلحة بما يدعم استدامتها، ويحدوه التفاؤل نحو تحسُّن وضع البنوك الحيوية بالمنطقة خلال السنوات القادمة.

أما أمل فتشير إلى تقدُّم في بنية القواعد المنظمة للبحوث الطبية في بعض دول المنطقة خلال العقد الماضي، ”هناك تغيير سنلحظه مع تطور القوانين المنظمة، يدعمه توافُر المزيد من الفرص التدريبية في أخلاقيات البحوث على المستوى المحلي والدولي“.

وهناك شبكات دولية أخرى تعمل على توفير التدريبات الفنية لمديري البنوك الحيوية والعاملين بها، بما يزيد قدرتهم على إدارة مراكزهم وتشغيلها، منها شبكة للبنوك الحيوية في الدول منخفضة الدخل والمتوسطة تابعة للوكالة الدولية لبحوث السرطان.

يقول زيزس كوزلاكيدس -مدير خدمات المختبر والبنوك الحيوية بالوكالة الدولية لأبحاث السرطان، التابعة لمنظمة الصحة العالمية- لشبكة SciDev.Net: ”نوفر تدريبات إلكترونية مجانية عبر البوابة التعليمية للوكالة، وأخرى على الأرض، وندعم البحوث والمبادرات التدريبية في الدول منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل“.

ويشير كوزلاكيدس إلى أن البنوك الحيوية نشأت في أغلب تلك الدول بوصفها جزءًا من مشروعات محددة، ورغم فائدتها في دعم تلك المشروعات إلا أنها انتهت إلى تكون مشهدًا مجزأً ومنفصلًا للبنية التحتية البحثية في تلك الدول.

ويضيف: ”التحدي الرئيس الآن هو التمكن من ربط مراكز التميز تلك ضمن بنية تحتية أكثر تكاملًا“.

ويختتم الصغير مؤكدًا أن ”دعم استدامة البنوك الحيوية بالمنطقة هو أساس لدعم استدامة البحوث العلمية والتطور الطبي بها“.

هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا