Skip to content

22/12/15

الفعل والفعل المضاد في التجربة الجزائرية ونزيف الأدمغة

Brain drain opinion 2
حقوق الصورة:Panos/ Iva Zimova

نقاط للقراءة السريعة

  • الفساد الإداري وعدم رشادة الحكومة في التعاطي مع الكفاءات أبرز الدوافع للهجرة
  • العشرية السوداء هي الأكثر استنزافًا للطاقات العلمية الجزائرية
  • يفتقر أغلب الإجراءات المعتمدة لاسترجاع الكفايات المهاجرة إلى الجدية في الطرح

أرسل إلى صديق

المعلومات التي تقدمها على هذه الصفحة لن تُستخدم لإرسال بريد إلكتروني غير مرغوب فيه، ولن تُباع لطرف ثالث. طالع سياسة الخصوصية.

ستحد الديمقراطية من قابلية كفاءات الداخل للهجرة، إن لم تفلح في استقطاب المهاجرة، كما تقول فتيحة سحنون
 
ترتهن حضارة أي أمة بالعقول المبدعة المفكرة، والعرب غير عاطلة من هذه الطاقة الخلاقة، لكن البيئة في الدول العربية طاردة لها، دافعة إياها إلى أخرى جاذبة لها بكل ما أوتيت من قوة، حاضنة لها بحدب ورعاية وإكرام.

وعندما يدور الكلام حول موضوع هجرة الكفاءات والكوادر العلمية من دول المنطقة؛ فإن عناوين مثل ’هجرة العقول‘ و’نزيف الأدمغة‘ تتصدره.
debate 3

والواقع أن حقيقة الأمر أبعد من هذا، إذ إن الحادث ’تهجير للعقول‘ لا هجرة طوعية، و’استنزاف للأدمغة‘ لا نزيفًا ذاتيًّا فحسب، و’استقطاب‘ للكفاءات، وعمل على ’استقرار‘ الألمعيات في بلاد المهجر و’استيطان‘ العلماء بأراضيها، و’استفراغ‘ أراضينا من رافعات النهوض.
 
إذن.. من ناحية، يتضح أن الواجب حيال هذا -إن توافرت الإرادة، وهذه توضع تحتها خطوط لا خط واحد- هو ’الاستبقاء‘ و’الاستنبات‘، والعمل على ’الاستعادة‘. ومن أخرى، فإنه يتوجب العمل المستبصر القضيةَ برمتها على ’إفشال‘ عمل ’الآخر‘ بتوفير ’مغرياته‘ عندنا، والتوقف منا عن ’التهجير‘ النزق بالكف عن الدوافع إليه.

مدار الحديث إذن عن فعل ’منا‘ و’منهم‘ يفضي إلى هجرة العقول، وعمل مضاد له ’هنا‘ و’هناك‘.

 
الدوافع
 
إن معظم دول العالم النامي لا تملك الإمكانات الكافية التي توفرها للكفاءات حتى تستقر بها، وتفاقمت الأزمة مع ما تعرضت له المنطقة في السنوات القليلة الماضية من ثورات وحروب ونزاعات داخلية.
 
وإذا كان حديثي سينصبُّ على الجزائر باعتباري من باحثيها فإن أسباب الهجرة ودوافعها يمكن قياسها على جميع الدول، ويأتي الوضع الأمني في المرتبة الأولى بالإضافة إلى الفساد الإداري وعدم رشادة الحكومة في تسيير هذه الكفاءات وتوجيهها بما يخدم الاقتصاد الوطني، وعدم تكافؤ الفرص، والتهميش الذي يقع على كل باحث متميز.
 
أضف إلى هذا تدني الأجور وبؤس الأوضاع الاجتماعية لهذه الفئة، مقارنة بالإغراءات المادية والاجتماعية في الدول التي يهاجرون إليها، فالأستاذ الجامعي الذي يتقاضى 400 يورو في الشهر بالجزائر، يجد نفسه بعد الهجرة يتقاضى أجرًا يتراوح بين 2000 و3000 يورو في البلد المستقبِل، وحتى من يغامرون ويعودون سرعان ما تضطرهم الظروف للعودة مرة أخرى.
 
الاستنزاف 
 
الجزائر من الدول التي جسدت نموذجًا واضحًا لهجرة كثير من الكفاءات عبر تاريخها، وكانت تسعينيات القرن العشرين، أو العشرية السوداء، هي الأكثر استنزافًا للطاقات العلمية الجزائرية، بسبب الأوضاع الأمنية التي عرفتها البلاد.
 
وقدرت تقارير حركة الهجرة التي رصدها المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي خسائر الهجرة بين سنتي 1992 و1996 بنحو40 مليار دولار أمريكي من وراء هجرة عشرات الآلاف من الأطباء والباحثين في شتى التخصصات، لا سيما نحو فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وعدد المهاجرين من حاملي الشهادات العليا بين سنتي 1994 و2006 قُدر بنحو 71500 مهاجر.
 
وأوضحت تقارير المجلس أيضًا أن 10 آلاف طبيب في جميع التخصصات استقر خلال الفترة نفسها في فرنسا (بسبب عامل اللغة).
 
وعن إجمالي عدد الكفاءات المهاجرة، فقد قدرها مركز البحوث في الاقتصاد التطبيقي من أجل التنمية في الجزائر، بأكثر من ربع مليون (268 ألف) ما بين طبيب وباحث وأستاذ جامعي في مختلف التخصصات.
 
الاستبقاء والاستعادة
 
سعت الحكومة الجزائرية غير مرة لاستقطاب هذه الكفاءات، وحثها على العودة والإسهام في تحقيق عجلة التنمية المعطلة، إلا أن أغلب الإجراءات المعتمدة كان ينقص بعضها الجدية في الطرح، مقارنة بما تقوم به السفارات الأجنبية لاستقطاب الأدمغة، إذ تمنح سنويًّا بعض السفارات الآلاف من المنح والتأشيرات للدراسة ببلدانها، وهو ما تضاعف في الآونة الأخيرة مع أعداد اللاجئين الضخمة من شتى بقاع الإقليم.
 
وهو ما دعا الحكومة الجزائرية في السنوات الأخيرة إلى محاولة بناء سياسات تكفل إرجاع الأدمغة المهاجرة ذات المستوى العالي، من خلال ربطها بمراكز البحث والمؤسسات الاقتصادية في البلاد، للاستفادة منها في نقل التكنولوجيا والمعرفة، وتوفير الظروف الاجتماعية المهنية بما لا يقل عن المستوى الذي يعملون به في الخارج.
 
كما أطلقت المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي في عام 2012 برنامجًا من أجل تشجيع الباحثين الشباب وإدماجهم في المؤسسات الجامعية الأجنبية، وعملت المديرية على استحداث ’جائزة رئيس الجمهورية‘ في اختصاصات علمية دقيقة بهدف كسب هذه الأدمغة، وتنفيذ مشروعاتهم العلمية على أرض الوطن، كما أنشأت ذات المديرية أكثر من ألف مخبر بحث عبر كافة الجامعات والمدارس العليا، ومراكز بحث جديدة لاستقطاب هذه الكفاءات.
 
هذا بالإضافة إلى الحملات التوعوية التي تقوم بها السفارات والقنصليات الجزائرية في الخارج؛ لدفع هؤلاء الباحثين للمشاركة في التنمية الاقتصادية من خلال أبحاثهم ومعارفهم المختلفة.
 
الحصاد
 
رغم هذه المساعي تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ زاد من صعوبة الأوضاع الإجراءات والتدابير التقشفية التي أقرتها الحكومة لمعالجة الأزمة الاقتصادية الحالية واختلالاتها التي ضربت البلاد بعد الانهيار الكبير لأسعار النفط في السوق العالمية، وأثر ذلك سلبًا على موازنة الجامعات والبحث العلمي، ما أدى لارتفاع عدد الأساتذة والباحثين الراغبين في الهجرة لدى السفارات والقنصليات الأجنبية.
 
ومن المنتظر أن تستمر هذه الوضعية إلى عقود قادمة في ظل غياب أي مؤشر على تحسن الوضع القائم، وهو ما يزيد من استنزاف البلاد للطاقات الحية في المجتمع والقابلية للهجرة.
 
وتفكر المديرية بعد فشل محاولاتها في استقطاب الأدمغة المهاجرة إلى ربط الباحثين الجزائريين عن بعد بمراكز البحث الجزائرية، وحاليا يتم البحث عن الآليات الناجعة لتشكيل ’لوبي‘ علمي؛ لمساعدة الدولة على تحقيق التنمية الاقتصادية بتوطين المشروعات البحثية كاستثمارات في الجزائر، سواء بإنشائهم مؤسساتهم الاقتصادية أو بالشراكة مع الشركات الجزائرية.
 
ويقدم عدد من الباحثين حلولاً عديدة أخرى لتطوير الجامعة الجزائرية والبحث العلمي، ومنها حلول مشتركة بين الدول النامية التي تعاني المشكلة نفسها، من خلال خلق بنك معلومات لكل الباحثين في البلدان المتقدمة، والاستفادة من مؤهلاتهم في تقديم حلول للمشكلات التي تعانيها بلدانهم، وتكوين الباحثين المحليين في شتى المجالات من خلال الملتقيات والندوات العلمية.
 
وتبقى كل هذه الإجراءات غير ذات أهمية ما لم يتم تصحيح الخلل الهيكلي في تسيير المؤسسات الجامعية والعلمية الجزائرية من خلال توفير الديمقراطية في تسييرها، وتوفير المناخ العلمي والأكاديمي للبحث في ظل ظروف مهنية واجتماعية مريحة، وحتى وإن لم تستقطب الكفاءات المهاجرة فإنها ستحد من ’القابلية للهجرة‘ لدى الكفاءات الموجودة في الداخل.
 
المقال جزء من حلقة نقاشية بعنوان العقول ثروة مفقودة.. هل من سبيل لاستعادتها؟‘ ستعقد بتاريخ الأحد الموافق 27 ديسمبر 2015 الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت مكة المكرمة. 
 
** فتيحة سحنون: باحثة في مركز تنمية الطاقات المتجددة بالجزائر، وعضو في النقابة الوطنية للأساتذة الباحثين.
 
هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.