Skip to content

14/03/21

غادة البرغوثي.. صاحبة عضلتَي الإصرار والعزم

غادة2
حقوق الصورة:Ghada Dushaq/ SciDev.Net

نقاط للقراءة السريعة

  • ترى أن ’تخطيط‘ أو ’عزيمة‘ هي الكلمة الصحيحة التي ينبغي أن تحل مكان كلمة ’حلم‘
  • تنصح مَن يخوض غمار البحث العلمي، بالاستعداد لتقبُّل السيئ قبل الجيد
  • تقول: ”باليد حيلة“، ولا ترى بوضع الباحثة في العالم العربي بأسًا

أرسل إلى صديق

المعلومات التي تقدمها على هذه الصفحة لن تُستخدم لإرسال بريد إلكتروني غير مرغوب فيه، ولن تُباع لطرف ثالث. طالع سياسة الخصوصية.

غادة البرغوثي- دوشق، فلسطينية تتخصص في الفيزياء التطبيقية، بات اسمها يلمع في الأوساط العلمية، ولما تتجاوز 32 سنة.

حصدت العديد من الجوائز الدولية، وآخرها كانت جائزة العالِمات النساء في الدول النامية، التي نالتها عامنا هذا.

غادة بنت قرية دير غسانة التي تتبع رام الله والبيرة، تخرجت في جامعة بيرزيت، ثم حصلت على ماجستير في الفيزياء من الجامعة الأردنية عام 2012، ثم الدكتوراة في هندسة النظم الدقيقة من معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا في جامعة خليفة- أبو ظبي، وذلك في إطار برنامج تعاوني مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية.

حاليًّا هي زميلة ما بعد الدكتوراة في مختبر أبحاث الضوئيات في جامعة نيويورك- أبو ظبي.

تركز أبحاثها على تحسين أداء التقنيات والإلكترونيات الضوئية عالية السرعة، نُشر لها أكثر من 35 بحثًا في المجلات العلمية الدولية، وأهمها حول تطوير مواد عضوية تعمل أليافًا بصرية بفاعلية، وهي أيضًا مُحكمة دولية للعديد من المجلات مثل المواد البصرية المتقدمة، والتقارير العلمية، ومجلة علوم المواد.

حول مسيرتها وإنجازاتها، كان لشبكة SciDev.Net هذا الحوار مع غادة.

الصغيرة غادة.. هل كان هناك ما يُنبئ بتفوقها العلمي؟

تخبرني أمي أني كنت مفعمةً بالطاقة والنشاط في طفولتي، وفضوليةً جدًّا، كثيرة الكلام والحركة، وجريئة، أتذكر أني كنت أحب الانضمام إلى أنشطة الإذاعة المدرسية، وإلقاء الشعر، والمسرح.

أنا البنت الصغرى في أسرتي، وأختي الكبرى قدوتي، أتذكر مرحلة دراستها في الفرع العلمي، لطالما راقني أسلوبها في دراسة الرياضيات، وكانت تثير إعجابي عند تحضيرها لمادة العلوم.

وكثيرًا ما أخبرت المعلمات أمي: ”غادة لا تمر عليها المعلومة مرور الكرام، تسأل باستمرار: لماذا يعمل هذا هكذا! ولمَ لم تكن النتيجة بشكلٍ آخر؟“.

وقد أحسنت والدتي التعامل مع حس الاستكشاف لديَّ، بدعمي بقراءات من خارج المنهج.

هل صرتِ كما تريدين؟

لقد نبض قلبي طيلة الوقت بمقولة محمود درويش: ”سنكون يومًا كما نريد.. لا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى“، ورأيي أن ’تخطيط‘ أو ’عزيمة‘ هي الكلمة الصحيحة التي ينبغي أن تحل مكان كلمة ’حلم‘.

بعد تخرُّجي في الجامعة، وعندما صرّحت بأنني سأمضي قدمًا نحو الدكتوراة، الكثير من صديقاتي وصفنني بالحالمة.

برأيي أن قوة الشخصية تولد بالفطرة، وظروف الحياة تصقلها، توفي والدي وأنا في العاشرة، وكانت أمي ربة بيت، لا أخفيكِ، شعرت بعبء كبير على كاهلي ولم يفارقني الإحساس بأني يجب ألا أرضى بما هو أقل من الآخرين، أخذت عن والدي حبه للعلم، فقد كان دائمًا يعطيه أولوية، ولم يكن أمامي إلا أن أواصل وأصرّ على النجاح من أجل روحه التي أشعر حتى اللحظة بأنها لم تغب عني.

لماذا اخترتِ الفيزياء؟

كنت دائمًا مُحبةً للعلوم عامة، وشغوفةً بالمختبرات بصفة خاصة، وفي البدايات ملتُ إلى الأحياء والكيمياء؛ لكون التجارب فيها ممتعةً أكثر، ولاحقًا شدتني الفيزياء بما أنها تبحث في ماهية الأشياء، وتنطوي على عمل الطبيعة دون تدخلات.

وثمة سبب آخر دفعني نحوها، أنها تحظى بسمعةٍ ”صعبة“، إلى درجة أنه قل مَن يستطيع الإكمال فيها، لذا كان الطلاب في الجامعة يتخوفون منها، باستثناء بعض الأوائل.

سأكون صريحة: تغريني فكرة أن أتحدى ذاتي، أردت أن اكتشف إلى أي حدٍّ أطيق صعوبات هذا التخصص، وإذا كان البعضُ قد خانتهم الشجاعة للالتحاق بالفيزياء، ”فأنا لها“.. هذا مختصر حديث النفس في ذلك الوقت.

وكيف تقيِّمين تجربتك في مطلعها؟

لم يكن الأمر سهلًا، مررتُ بنجاحاتٍ وإخفاقات، وكل نجاحٍ حققته كنت أستند إليه فيما بعد، وأتلقى منه رسالة طمأنة، مفادها: ”استمري“، وهكذا، أيًّا كانت الصعوبات الجديدة، لم أتوانَ عن الإيمان بأن كل عقبة يمكن تجاوزها كما حدث من قبل، وما كان ذلك ليفلح لولا توفير رصيد إضافي من الهدوء والدراسة والعمل الدؤوب والتقبل.

مهلًا.. ماذا تقصدين بالتقبل؟

حسنًا! مَن يخوض غمار البحث العلمي، عليه أن يكون على أهبة الاستعداد لتقبل السيئ قبل الجيد، وأن يتهيأ نظامه لتقبُّل الصدمات بصبر بالغ، وحتمًا لن يستقيم الأمر دون تدريب عضلة الإصرار، بمعنى أنه إذا لم تنجح معنا طريقةٌ ما فلا مفر من إعمال التفكير في أخرى، وبالتالي قدرتنا على حل المشكلات تزيد مع المران يومًا بعد آخر، لذا لا أنفك عن نُصحي: صبر وإصرار.

دعينا نقفز إلى مرحلة الدكتوراة.. هل مرت بسلام؟

ضحكة وتنهيدة تسبقان جوابها.. أول عام في الدكتوراة كله مشقة؛ فالمساقات صعبة جدًّا، والوظائف المطلوبة تستلزم جهدًا كبيرًا، كنت أحيانًا من أجل حل بعض المسائل أمكث أسبوعًا متواصلًا لا أنام فيه الليالي، إلا من بضع ساعات أسترقها في الصباح قبل الذهاب إلى محاضرة التاسعة.

لم يكن لديَّ أصدقاء في تلك المرحلة حتى يخفِّفوا عني أو يرفعوا من معنوياتي، وكان معظم الأساتذة من الأجانب، أعترف بأني أوشكت على الانهيار، وساورني الشك في قدرتي على استئناف الدكتوراة.

مجتمع جديد، وأنا بمفردي، وأدرس بمنحة وبموجبها كان لا بد من الحفاظ على سقف معين من المعدل، ناهيك بتحدي الدراسة مع طلاب من 65 دولة، بعضهم يتمتع بمستوى علمي قد يتفوق على المستوى المعتاد، بما أنهم درسوا تخصصاتهم بطريقة أكثر تطورًا.

رحت أنظر إلى الأمر على أنه لعبة رفع أثقال قانونها ”التدرج في زنة الأحمال“، لتقوى عضلة العزم عندي وتنجح مرةً تلو أخرى في مواجهة الصعوبات.

شيء واحد كان يضمن لي الثبات مع كل تلك الضغوط، تذكّر عائلتي التي تثق وتفخر بي، كنت أشدّ على يدي هامسةً: ”من المستحيل يا غادة أن تعودي بخُفَّي حنين.. لا تخذلي الحَبايب وكوني على قدر المسؤولية يا فتاة“.

حول ماذا كانت تدور أبحاثك التي بموجبها نلتِ درجة الدكتوراة وواصلتِ فيها لاحقًا؟

تخصصتُ في الإلكترونيات الضوئية، لأبسط لكم الفكرة: في الفيزياء التطبيقية، هناك ما يشغل العالم، وهو التطور السريع الذي نشهده في التكنولوجيا وزيادة سرعة الإنترنت، وفي كل مرة تُفاجئنا تطبيقات حديثة في الهواتف الذكية التي يغزو جديدها الأسواق يوميًّا.

ما يعني أن التكنولوجيا تسير بوتيرة متلاحقة ومذهلة في تطورها، وصلب تخصصي يتصل بنقل البيانات، في عصر الغرق في ’السوشيال ميديا‘ ووسائل التواصل.

والمعلومات يجري نقلها باستخدام الألياف الضوئية، وموضوع أبحاثي: ”تحويل الإشارة الضوئية إلى إلكترونية“ أو ما يُعرف بالمستقبلات الحسية، وعملي هو تحسين نوعية المستقبلات الحسية التي تحوّل الضوء إلى كهرباء.

ما أبرز المهارات البحثية التي تُصقل عادةً لدى الباحث؟

الأمر لا يقتصر على ماهية البحث فقط، بل يمتد إلى المسؤولية التامة عن البحث برمَّته وتحرّي الأمانة العلمية في النتائج الجديدة التي سيخرج بها الباحث في مشروعه، وهو المسؤول الأول والأخير عنه، والبحث يؤسس شخصيةً قادرة على تحمل المسؤولية، يصقلها الصبر والتفكير خارج الصندوق.

أي إنجاز طار بعده قلبكِ فرحًا؟

لما تحقق حلمي حين نَشر لي أهم ناشر علمي في العالم بإحدى مجلاته، ألا وهي نيتشر كوميونيكيشنز، وتُعد ثاني أهم مجلة علمية، وهي متخصصة في مجال الضوئيات والبصريات، وقد نُشر فيها بحث له حظوة في قلبي، وكانت الخطوة الأصعب فيه، صنع مجسٍّ ضوئي من مادة الجرمانيوم، حدثٌ كهذا في تاريخ حياتي منحني الثقة.

تعملين الآن على نيل زمالة أبحاث ما بعد الدكتوراة.. ما مدى حساسية هذه المرحلة؟

مرحلة مهمة جدًّا، وقد بدأت أنتهج منظورًا آخر في التفكير العلمي أنضجَ من خبراتي البحثية في خضم تعاون جماعي، ومهاراتي باتت تُشحذ بطريقة تختلف عن تلك التي كانت في أثناء مرحلة الدكتوراة المقتصرة على جهدٍ منفرد.

إذ أعمل حاليًّا مع باحثين عالميين يتمتعون بغزارة في البحث العلمي، ومن خلفيات علمية متنوعة وجنسياتٍ عدة، على سبيل المثال أتعاون مع باحث تخصصه ’هندسة كهرباء‘، وآخرين من قسم الكيمياء والفيزياء، ناهيك بالتعاون مع جامعات في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وأمريكا.

وبكل شغف أستكمل إجراء الأبحاث، ليس فقط في المجسات الضوئية، بل انتقلت إلى المواد العضوية وما شابه، فغزارة الإنتاج تقرر مصير طموحي، المتمثل في ”نيل درجة أستاذ“.

تتمسكين بالرأي القائل: ”يمكننا جذب الظروف مهما ساءت لصالحنا“.. لكن ذلك يبدو غير واقعي عند المعظم.. فبماذا تعقبين؟

مَن يعتقدون أنه ”ما باليد حيلة“ فهذا قول يستسهله جُل الناس؛ لأن الخيار الأسهل أن نركن إلى الراحة، لماذا لا نجعل ”باليد حيلة“ ونبذل جهدًا أكبر.. ثمة مقولة أحبها: ”سُئل أحد العارفين: “هل تصدك المِحن عن الطريق؟“.. وكان جوابه: ”والله لولا المِحن لشككتُ في الطريق“.

ببساطة، كلٌّ منا مسؤول عن التفكير بحلولٍ فعالة للتحسين من حياته، قال تعالى: ”لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ“، والدنيا إن لم يكن فيها تعب فهي إذًا جنة، ومن دون تحدي الصعاب لا حلاوة للوصول.

بالنظر إلى وضع الباحثة في الوطن العربي فإن هناك مسؤوليات وقيودًا ثقيلة قد تصدها حقًّا عن الطريق.. ما ردك؟

رأي من هذا القبيل يضحكني أحيانًا، ما أجزم به أن مَن يريد الوصول إلى هدف ويصر عليه حتمًا سيصل، إذ يتوقف الأمر على جدية الشخص -ذكرًا كان أم أنثى- وحينها أولوية الأهداف تكون سيدة الموقف.

 ولا أقلل من شأن مسؤوليات الأسرة التي لا خلاص منها، لا سيما إن كانت المرأة أمًّا ’باحثة‘، لا أتكلم من فراغ، أعرف صديقات لديهن خمسة أطفال ومع ذلك نجحنَ أيما نجاح، أما إن كانت الغاية نيل درجة علمية لزيادة المعاش ليس إلا، فإن الهدف يغدو عبئًا، في حين أن المحب الحقيقي للعلم سيستلذ بكل خطوة مهما كانت الصعاب، حتى لو كان سيُحرم من النوم إلا لسويعات، سيظل حينها راضيًا وسعيدًا.

ماذا إذًا عن التمييز الذي تواجهه الباحثة العربية؟

حسنًا، الأمر لا يخلو من التفرقة بينها وبين الباحثين الرجال، وفي المقابل لو نظرنا إلى حال المجتمعات الغربية فسنجد أيضًا أن هناك قدرًا من الاستخفاف بهن في هذا الحقل، ولهذا السبب تنتشر مؤسسات دعم المرأة في العلوم، إذ لا تتجاوز نسبة النساء في العالم ممن ينخرطن في الميدان 30%.

لا ننكر، هناك ندرة في الباحثات، وقلما نرى فتاة حاصلة على درجة الدكتوراة وأنجزت أبحاثًا، وبسبب قلتهن قد يتجرأ المجتمع عليهن بالتطاول، لأن ندرة الشيء يبدو وكأنها تعطي الحق في الاستهانة به.

وبالنظر إلى مجتمعنا الفلسطيني، هناك ما يدعو إلى التفاؤل، فمن الملحوظ أن نسبة الفتيات اللاتي يحملن درجة الدكتوراة وثقة المجتمع بنتاجهن، تُعد أفضل مقارنةً بما قبل عشر سنوات، وبالتالي يتطور المجتمع بخصوص دعم المرأة في العلوم، بعد أن أثبتت جدارتها، وشخصيًّا أفخر بصديقات فلسطينيات يطمحن أن يعدن إلى الوطن ليتقلدن مناصب ’أعضاء هيئة تدريس‘، وقد وصلن إلى مستوى رفيع بل عالمي، في مضمار الأبحاث.

في حديثك، تتكرر كلمة “إصرار”.. أخبرينا كيف للباحث أن يحميه من الفتور؟

يتراكم الإصرار مع تجارب مديدة شهدت صمودًا وقوة تحمُّل وإيجابية، ولا يأتي بين يومٍ وليلة، إلا أن ظروفًا قاسية قد تحاصر الإنسان وتسلبه إصراره.. ليطل عندئذٍ السؤال المعهود: ”وما العمل؟“.

سأتحدث عن نفسي، مرت بي أوقات عصيبة شعرت فيها بالضعف، وحيالها كان لا بد أن أفعل شيئًا، لجأت مثلًا إلى إحاطة نفسي بأشخاص أرواحهم إيجابية يصغون إلى همي بكل حب، حتى لو لم يكن بوسعهم حل مشكلتي.

 وفي حال لم أجد أحدًا لأبثه حزني، كنت أسارع في لحظات اليأس، لأشاهد عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي والأفلام الوثائقية قصص أناس كانت ظروفهم حالكة السواد وربما عاشوا طفولةً مشردة وتجاوزوا كل هذا، ثم عثروا على نورهم بوصولهم إلى أماكن مرموقة، تلك النماذج طالما شدت من أزري.

إلامَ ترنو عينك؟

أطمح إلى نشر مزيدٍ من الأبحاث في مجلات عالمية، وتحدوني الرغبة نحو إنتاج غزير في البحث، إن تحقق هذا فمن شأنه أن يساعدني في دعم طلاب أكفاء في إجراء الأبحاث، لأشكل منهم فريقًا بحثيًّا رائدًا، على أن يضم شبانًا فلسطينيين، وذلك سواء عدتُ إلى فلسطين أو عملت على تشكيله خارجها.

وآمل في وقت قريب إن شاء الله، نيل درجة ’أستاذ مساعد‘ في جامعة مرموقة، حتى يصبح بمقدوري قيادة فريقي البحثي.

هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا