Skip to content

29/05/14

حول العالم العربي.. المعرفة التقليدية

Indigenous
حقوق الصورة: SciDev.net /Hamed El-Mously

نقاط للقراءة السريعة

  • المعرفة التقليدية مكون حي للذاكرة الحضارية لدى أبناء المجتمع المحلي
  • لكن الوضع الراهن للمعرفة التقليدية في بلداننا العربية غير مُطَمْئِن
  • كنز المعرفة التقليدية هو ميراثنا من الأجيال السابقة، وعلينا تقديمه في صورة أفضل للأجيال المقبلة

أرسل إلى صديق

المعلومات التي تقدمها على هذه الصفحة لن تُستخدم لإرسال بريد إلكتروني غير مرغوب فيه، ولن تُباع لطرف ثالث. طالع سياسة الخصوصية.


تظل كنزًا مخفيا لدينا، لذا يدعو حامد الموصلي للاستفادة منها بتطبيق معاصر وعناصر مختارة من العلم والتكنولوجيا

المعرفة مُنْتَج للنشاط الإنساني الخلاق الذي يجري في سياق اجتماعي حضاري محدد، وفي إطار منظومة بيئية معينة، وبِقَدْرِ تنوُّع الكيانات الاجتماعية الحضارية التي يحيا في إطارها الإنسان واختلاف الظروف البيئية تتنوع المعرفة الإنسانية.

في إحدى دراساتي الميدانية بالساحل الشمالي الغربي في مصر، كان مرافقي من أبناء المنطقة لا يعرف القراءة والكتابة؛ وعمره 17 سنة، لكنه على دراية مذهلة ببيئة المنطقة.

كان يعرف أسماء النباتات الصحراوية التي لم يعرف بعضها زميلي ورفيق الدراسة، وهو أستاذ مساعد في كلية الزراعة بجامعة عين شمس. كان الفتى يعرف استخداماتها المختلفة في العلاج، ويعرف الحيوانات البرية الموجودة في المنطقة، وأساليب اقتناصها، ويلم بالخصائص الجيولوجية للمنطقة، وبالعمق التقريبي الذي يوجد عليه الماء، وبالأساليب المحلية لحفر الآبار وإقامة السدود لاحتجاز الأمطار، التي يسمونها في الأدبيات العلمية طرق حصاد المياه.

كان هذا الأمي -وفقًا للمصطلح الشائع لدينا- على دراية واسعة بالكثير من المعارف العلمية والتكنولوجية عن بيئته، لا يعرفها أي خريج جامعة لدينا في التخصصات المناظرة. لقد جسَّد لي الفتى معنى المعرفة التقليدية وأهميتها بحسبانها مكونًا حيًّا للذاكرة الحضارية لدى أبناء المجتمع المحلي.

المعرفة التقليدية ومجالاتها

والمعرفة التقليدية بذلك هي نتاج حضاري وحصيلة تاريخية لتفاعل أبناء المجتمعات المحلية المختلفة عبر آلاف السنين مع بيئتهم المحيطة ومع مواردهم المحلية من أجل إشباع حاجاتهم الأساسية، وكذلك التعبير عن رؤاهم الحضارية وتلبية حاجاتهم الروحية.

وهي أيضا تعد تراثًا قد يتجسَّد بشكل مادي أو يكون مكتوبًا أو حتى شفهيًّا؛ لكنه مُعاش. ومجالاتها تمتد لتشمل الحاجات الإنسانية المختلفة من البناء للكساء للغذاء للتداوي للدفاع، إلخ…

هذا التراث الغني يتمثل في اكتشاف الاستخدامات المختلفة للموارد المتاحة لكل مجتمع محلي في إشباع الحاجات الإنسانية المختلفة، سواء كانت هذه الموارد مكونات للتكوينات الجيولوجية أو مكونات الغطاء الطبيعي؛ النباتي منه والحيواني، كما تمثل المعرفة التقليدية حصيلة الخبرات الطويلة للحضارات المختلفة في استئناس السلالات النباتية والحيوانية المختلفة.

أهمية المعرفة التقليدية

هذه المعرفة التقليدية متاحة للإنسان العادي في كل مكان بحكم انتمائه لمجتمعه المحلي، وغالبًا عبر ارتباطه بالتكوينات الاجتماعية الحضارية السائدة، ودون تدخُّل مؤسسات الدولة أو آليات السوق، مما يضمن له حدًّا أدنى من القدرة على إشباع حاجاته الأساسية، وعلى الفعل والمبادرة انطلاقًا من موقعه في مجتمعه المحلي.

وهي تَحْمِل أحيانًا تعبيرية حضارية تؤكد الهوية الحضارية؛ سواء على مستوى المجتمع المحلي أو الدائرة الحضارية ككل، فالمعرفة التقليدية في شِقِّها التقني -أي التراث التقني- تقوم بتشكيل العالم المادي بحيث يعبِّر عن الرؤية الكامنة لدى المجتمع والحضارة، وما الحوش السماوي (فِنَاء الدار) السائد في البيوت البدوية، وفي بعض المنازل التقليدية في شمال سيناء وفي النوبة سوى نموذج معبر في هذا السياق.

والمعرفة التقليدية تحمل شفرة حضارية مميَّزة، أو لغة خاصة تعطي توجهًا خاصًّا للفكر والخيال، وتُطلق الإبداع في اتجاهات مغايرة لما هو سائد، وربما تكون تلك هي القيمة الأعلى والأكثر تجريدًا للمعرفة التقليدية.

يعني هذا أن اهتمامنا بالمعرفة التقليدية في كل مجتمع محلي يمكن أن يمثل منطلقًا لإبداع حضاري على المستويات القومية والوطنية والعالمية.

مثال ذلك أنه عند هدم البيوت المسقوفة بجريد النخيل، يقوم القفَّاصون بإعادة استخدام هذا الجريد -الذي جف تمامًا- في الأعواد الرأسية (ويسمونها ’سنابل‘) في صناعة الأقفاص.

تتمثل المعرفة التقليدية في اكتشاف الاستخدامات المختلفة للموارد المتاحة لكل مجتمع محلى في إشباع الحاجات الإنسانية

ألا يوحي لنا ذلك –عندما نقوم باختيار مورد أو مادة ما لتصنيع منتج- بأن نخطط منذ البداية لعدد من الحيوات المتتابعة له، وأن نراعي في تصميم المنتج سهولة استعادة كل مكون له من أجل استخدامه في حياة جديدة، مما يرفع كفاءة استخدام الموارد، وما يحقق بالتالي معيار التنمية المستدامة؟

إننا مدينون بكل ما وصلنا إليه في الاستخدام الصناعي والفني لجريد النخيل للمعرفة التقليدية، وأقصد هنا الأرابيسك (فنون المشربية والخرط العربي) وبدائل الأخشاب وألواح الكونتر والأعلاف والسماد العضوي، إلخ..

معرفة حية

أصف المعرفة التقليدية بأنها حية؛ لأن الذي يحملها هو النسيج الاجتماعي الحضاري الحي للمجتمع المحلي، ولأن ملكيتها متاحة لكل الناس، ولأنها في متناول الإنسان العادي ودون تدخُّل مؤسسات الدولة وآليات السوق، ولأنها جزء لا يتجزأ من الثقافة السائدة في كل مكان.

ورغم ما سبق فإن الوضع الراهن للمعرفة التقليدية في بلداننا العربية غير مُطَمْئِن.

والطريقة التي نتعلم بها تولِّد لدينا مشاعر سلبية إزاء تراثنا الحضاري، ومعارفنا التقليدية. فالمقررات الدراسية في التعليم الرسمي بجميع مستوياته هي في الأغلب نُسَخ مما هو سائد في الغرب، لذا لا يُستغرب ألا ترد فيها إشارة لتراث أمتنا العربية في مجال العلم والتكنولوجيا والمعرفة التقليدية.

كما لم تُبذل أي محاولة جادة للمواءمة بين مقتضيات التحديث والمعاصرة ومتطلبات تنمية الريف؛ الحامل الحقيقي الرئيسي لتراث الأمة في المعرفة التقليدية. وقد جعل هذا من التعليم الرسمي قوة طاردة مركزية تدفع الشباب بعيدًا عن تراثهم الحضاري وما يتضمنه من معرفة تقليدية.

كذلك حَمَل هذا التعليم رسالة ضمنية للانبهار بكل ما هو غربي وافد، واحتقار كل ما هو محلي موروث، مما جعل المتعلمين عاجزين عن التواصل مع أبناء الريف ومساعدتهم على المشاركة في تنمية مجتمعاتهم المحلية. إن هذا العجز ليس مسألة شكلية، بل هو قضية مشروعية العلم في بلادنا؛ فالعلم –بمعناه الغربي- لن تكون له مشروعية لدينا إلا من خلال حواره –وتواصله- مع المعرفة التقليدية.

والرسالة التي تبعث بها وسائل الإعلام الجماهيرية –خاصة التليفزيون- هي الانبهار والقبول الكامل بنموذج التحديث الغربي، وهي رسالة نفي للهوية المحلية بكل ما تحمله من خصائص حضارية وإمكانات تنموية ومعرفة تقليدية، مما يؤدي إلى شيوع نظرة الاحتقار لكل ما هو تقليدي موروث، وإثارة مشاعر الخجل والرغبة في التبرؤ منه.

وهناك التغير الكاسح في أسلوب الحياة بالريف، والذي هو تقليد للنموذج الغربي، فلقد أدى استبدال نمط الاستهلاك الغربي بالمحلي إلى إهمال عشرات العناصر المكونة للحياة النباتية والحيوانية التي كان لها دور أساسي في إنتاج عناصر أسلوب الحياة والسلع الاستهلاكية، مما أدى بالتالي إلى إهمال –وموات- المعرفة التقليدية المرتبطة بها.

وبالمثل عندما كنت أرى (في دراسة ميدانية أخرى) أكياس دقيق المعونة الأمريكية تنقلها عربات الكارو للتجمعات البدوية في الصحراء كنت أشعر بخطورة هذه الأكياس؛ لأنها تمثل دعوة للراحة وترك العمل بالزراعة البعلية وطحن الدقيق، والاعتماد على الجاهز القادم من الخارج. إنها كانت دعوة للانخلاع عن البيئة والهوية المحلية وإهمال المعرفة التقليدية.

هكذا تموت المعرفة التقليدية مِيتَة غير طبيعية دون أن تُطور أو توصل بالمعارف العلمية والتكنولوجية الحديثة من أجل النهوض بالمجتمعات المحلية، مما يؤدي إلى المزيد من ضمور النسيج الاجتماعي الحضاري الحي لهذه المجتمعات، وإلى تهميش الغالبية العظمى من أبنائها وتحولهم إلى مستهلكين غير منتجين، معتمدين في إشباع حاجاتهم الأساسية على المدينة، وعلى الاستيراد من الخارج، مما يؤدي إلى المزيد من الاغتراب لأبناء مجتمعاتنا المحلية.

اكتشاف الكنز

لا يمثل هذا المقال دعوة لاتخاذ موقف ’سلفي‘ فيما يتعلق بقضية المعرفة، بل إنني أجزم بأن التعامل ’المَتحَفي‘ مع المعرفة التقليدية غير إنساني بالمرَّة؛ لأنه ينكر حقوق أبناء المجتمعات المحلية –المالكين الحقيقيين للمعرفة التقليدية- في أن يعيشوا حياه أفضل.

ولا هو دعوة للاستغناء عن العلم والتكنولوجيا بمضمونهما العصري، ورأيي أن ثمة فرصة رائعة للتعايش بين أنساق مختلفة من المعرفة؛ المعرفة التقليدية التي هي مكون مهم لذاكرتنا الحضارية والمعرفة العلمية والتكنولوجية الحديثة كما وفدت إلينا من الغرب. إنها مهمتنا نحن في إقامة جسور التواصل والتعايش بين هذين النسقين من المعرفة، وبلورة وإبداع واختيار المسار الخاص بنا في التنمية والتقدم.

لكنني أود الإشارة إلى الأهمية الخاصة التي تكتسبها المعرفة التقليدية في ضوء الأزمة البيئية العالمية الراهنة، والمؤشرات التي تؤكد عدم توافق نموذج التنمية الغربي مع المحيط الحيوي ومع مبادئ التنمية المستدامة، وكذلك النداءات المخلصة من الغرب (الشمال) إلى دول الجنوب بأن يقوموا بقفزة ضفدعة Leap frogging منطلقين من تراثهم الحضاري، ومتجاوزين التجربة الغربية لإيجاد حلول مبدعة في التنمية للشمال والجنوب.

ومطلوب هنا دور لمؤسسات البحث العلمي والمجتمع المدني والجهات المانحة والدول؛ لوضع استراتيجيات لاكتشاف هذا الكنز-المعرفة التقليدية- بهدف الاستفادة منه في التنمية. إنه ميراثنا من الأجيال السابقة، وعلينا تقديمه في صورة أفضل للأجيال المقبلة.

هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط
 

References

[1]    Ramalho, Luiz. Sustainable Consumption Provides Opportunities for Developing Counties ( Industry and Environment, 1999).