Skip to content

24/11/14

حول العالم العربي.. نظرة جديدة للتنمية

Livestock egypt
حقوق الصورة:Flickr/ World bank

نقاط للقراءة السريعة

  • تصور النموذج الغربي للتنمية يجعل من النمو الاقتصادي بمعناه الكمي هدفًا أسمى للمجتمع
  • التنمية الذاتية تنمي قدرة المجتمع المحلي على النهضة والتجدد الذاتي
  • وجوهرها استخدام الموارد المتاحة محليًّا لإيجاد حل مشكلة تواجه المجتمع

أرسل إلى صديق

المعلومات التي تقدمها على هذه الصفحة لن تُستخدم لإرسال بريد إلكتروني غير مرغوب فيه، ولن تُباع لطرف ثالث. طالع سياسة الخصوصية.

شهد القرن العشرون ذيوع فكرة التنمية وارتباطها بتصور رفاهية الشعوب وتقدمها، وخلال عقد الخمسينيات منه -الذي تلا الحرب العالمية الثانية- وجدت أرضًا رحبة في مجتمعات الغرب الصناعي، وهكذا تبلور تصور للتنمية يجعل من النمو الاقتصادي بمعناه الكمي هدفًا أسمى للمجتمع.

وقد صُك مصطلح ’تنمية‘ في لغتنا العربية حاملاً المضمون نفسه، ألا وهو الزيادة الكمية، ففي معجم مختار الصحاح يُستخدم فعل نما كما في ”نما المال“ مثلاً بمعنى كثر وزاد، ويستخدم ابن خلدون كذلك مصطلح ’تنمية‘ بمعنى العمل على الإكثار، كما في ”معنى التجارة تنمية المال“.
 
أيضًا خلال ذاك العقد نال العديد من دول العالم الثالث الاستقلال، ولما اتجهت للتنمية كان الشعور السائد وقتئذٍ أن هناك نموذجًا واحدًا للتنمية يُتوجه إليه من البدايات بإيقاعات متباينة.
ولقد شهدت العقود التالية بدءًا من الستينيات محاولات مكثفة بذلها كثير من تلك الدول لتبني ذاك النموذج، وخلال هذه المدة، ساد أيضًا استخدام مصطلح ’الدول النامية‘ لتوصيف الدول الآخذة بنموذج التنمية الغربي.
 
وهذا المصطلح (التوصيف) في لغته الأصلية Developing Countries يكشف الرؤية الكامنة خلفه، وهي أن الطريق واحدة والهدف أيضًا واحد، وأن حاضرنا هو ماضي دول الغرب الصناعي، وليس علينا إلا اتباع النموذج الغربي الجاهز.
 
خلال ربع قرن من محاولات اتباع النموذج الغربي تبين بشكل واضح أن الطريق مسدودة، وأن خطط التنمية المتبعة لم تؤت ثمارها، ولم تحقق أهدافها في أغلب دول العالم الثالث، التي أصبحت تئن حاليًّا تحت وطأة الديون المتفاقمة، إضافة إلى التمزقات الاجتماعية، والمشكلات البيئية، وانهيار الثقافات المحلية، والاغتراب عن الهوية الحضارية.
 
وهكذا، يبدو أن البندول يتحرك في اتجاه معاكس؛ فبعض تلك الدول التي تعرضت لخبرات مكثفة للتنمية، اتخذت موقف العودة إلى الذات بالمعنى الحضاري، وهو موقف تتخذه شرائح متزايدة الاتساع من المثقفين، بل والطبقات الشعبية، في الكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
 
معنى التنمية الذاتية
 
التنمية الذاتية هي عملية تحول مستمرة للمجتمع المحلي، قد تبدأ بعوامل مساعدة من خارج المجتمع أو تكون نابعة بالكامل من داخله، تؤدي إلى إطلاق الطاقات الكامنة داخل المجتمع المحلي، وتنمي قدراته على التجدد الذاتي والنهضة، وبالتالي يتمكن من التعبير عن قيمه الحضارية المميزة، حتى لو اتخذت تلك القيم تعبيرات جديدة تتماشى مع ضرورات الحاضر ومتطلبات المستقبل.
 
وهي دعوة للتخطيط من أسفل لأعلى، بأن يبدأ برؤية الواقع الحي المعيش، ودعوة لمشاركة عامة الناس في التنمية وتحرير قدراتهم على التفكير والخيال والتعاون والعمل، ما يفتح المجال للإبداع المحلي في كل مجالات الفعالية الإنسانية والنهوض الحضاري في كل مكان.
 
هذه التنمية الذاتية تنطلق من الثقة في الناس والرهان على كل ما هو إيجابي في نفوسهم، ومن الاعتماد على النسيج الاجتماعي الحضاري الحي للمجتمع المحلي، ومن النظر إليه باعتباره كائنًا حيًّا قادرًا على الفعل والحركة وحاملاً لمقومات نموه ذاتيًّا، وبحسبانه مجتمعًا ذا هوية متفردة وملامح وقسمات تهبه طابعًا خاصًّا، وتميزه عن غيره من المجتمعات المحلية.
 
وهي تنطلق كذلك –على مستوى الفرد– من النظر لكل إنسان باعتباره معجزة في ذاته، وأن لديه إمكانات كامنة للفعل والإبداع تميزه عن غيره من بني البشر، وأن أهم وظيفة للتنمية هي صناعة المناخ الذي يساعد، وييسر لكل إنسان اكتشاف ذاته أو إعادة اكتشافها، في سياقات واقعية متزايدة الاتساع، تبدأ من أصغر وحدة اجتماعية ينتمي إليها، فالمجتمع المحلي، فالوطني، فالإقليمي، فالعالم أجمع.
 
من ثم تتيح التنمية الذاتية –على المستوى نفسه– الفرصة للتفاعل النفسي الاجتماعي في حدود طاقة الفرد على التواصل والتفاعل والعمل والمشاركة الإيجابية في مجتمعه المحلي، وكذلك في حدود قدرته على أن يرى ناتج تفاعله وعمله ويلمسه ويدركه، أي أن دائرة النية والعمل وناتج العمل تنغلق على مستوى المجتمع المحلي، فيستطيع الفرد بالتالي أن يصحح رؤيته ويعدل مسار عمله، فيدخل في دائرة جديدة للتفاعل، وهكذا.
 
أما من زاوية التدخل كعامل مساعد فإن التنمية الذاتية تخرج بالناس من حالة الغيبوبة والعجز والسلبية وانتظار الحلول الجاهزة إلى المشاركة الفعالة في صنع واقعهم واستعادة دورهم، فاعلين ومعاصرين في سياق مجتمعاتهم المحلية.
 
من هنا تبدأ التنمية الذاتية بفهم ذلك السياق وما يحوزه من إمكانات ذاتية، سواء كانت قيمًا إيجابية دافعة للعمل والإبداع، أم شبكات علاقات اجتماعية فاعلة، أو أشكالاً من التنظيم الجماعي المحلي، أو معارف واسعة عن المحيط الحيوي والموارد المحلية التي يحوزها الناس، أو التراث التقني (المعارف والمهارات والخبرات التقنية).
 
لذا فالتنمية الذاتية تعني الاعتراف بالتنوع في الظروف الإيكولوجية، والخبرات التاريخية، والثقافة والبنى الاجتماعية الحضارية للمجتمعات المحلية، وتوظيف هذا التنوع والاستفادة منه، أولاً لاكتشاف الميزات النسبية والتنافسية التي يتميز بها المجتمع المحلي كمنطلق لإقامة أنشطة اقتصادية ناجحة، وثانيًا لإثراء التجربة التنموية على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي.
 
ومن ثمرة ما سبق أنها تعني كذلك إنصاف العديد من عناصر الطابع المحلي في المسكن والملبس والأثاث والمأكل والأنشطة الاقتصادية… إلخ. ولا يعني ذلك تجميد هذه العناصر على صورتها الراهنة، فالعديد منها يمكن أن يحمل صفتي الثبات والتغير في نفس الوقت.
 
البناء بالطين مثلاً فكرة، لكن هناك بدائل عديدة في المواد والتقنيات وكذلك التصميمات، الأهم هو اكتشاف الشفرة والتعبيرية الحضارية الكامنة خلف الطابع المحلي، مما يعطي اتجاهات متميزة للتفكير والخيال والإبداع المرتكز على خصائص البيئة المحلية والخصوصية الحضارية للمجتمعات المحلية.
 
والذي تعنيه التنمية الذاتية بأعم معانيها وأوسعها وأشملها، أنها استعادة الإنسان العربي للمبادرة، وحقه في الاختيار: اختيار أهداف الحياة، ومعنى التقدم ومضمونه، وحقه في المشاركة في التنمية، وفي بناء مستقبله ومستقبل مجتمعه وأمته.
 
كذلك هي تعني تمكين أبناء المجتمعات المحلية تنظيميًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا كي يكونوا منتجين ومبدعين، والتخلي عن التقليد الأعمى للنموذج التنموي الغربي، وعن صيغة التحديث الجاهزة المرتبطة بالتلقي السلبي لثمرات إبداع الآخرين في صورة سلع وأساليب جاهزة للحياة والاستهلاك والإنتاج، مما يؤدي إلى خمود القدرات الإبداعية الذاتية.
 
إن التنمية الذاتية لا تقف عند معنى مشاركة الناس –كل الناس– في التنمية، بل تتجاوزه إلى شعورهم بأن قضية التنمية هي قضيتهم، وأنهم يملكون مفاتحها، لذا فهي تخاطب لديهم الدوافع الأعمق للوجود، ورغبتهم الأصيلة في التعبير عن أنفسهم، ومن ثم فالتنمية الذاتية من أهم شروط استدامة التنمية.
 
دليل من القرآن
 
عندما بلغ ذو القرنين بين السدين وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. لقد عرضوا عليه صفقة: ]قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا[. عرضوا عليه صفقة للقيام بعمل معين لقاء أجر دون أي مشاركة منهم، فما كان جوابه عليهم؟ لقد نحى موضوع الصفقة جانبًا، وقرر أن ينطلق من مُكْنَتِهِ هو: ]مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ…[، أي مما يستطيعه هو كفرد، ناسبًا الفضل فيما يستطيعه إلى الله عز وجل، مستظلاًّ بالمشيئة الإلهية.[1]
 
المهم هنا كيف تعامل ذو القرنين مع هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً؟ أبسط ما يمكن أن يقال عنهم أنهم أميون أو جهلاء أو عديمو القدرة على الفهم. لقد قال لهم: ”فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ“ أي أنه -بعد تنحيته الصفقة معهم جانبًا– استنفر قوتهم وجعل إعانتهم له شرطًا لعمله معهم: ”أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا“.
 
بعدها عاد وطلب منهم إحضار خام محلي لديهم: ”آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ“، ثم طلب منهم المساعدة في صهر الحديد: ”قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا“، ثم عاد فطلب خامًا آخر وهو النحاس ”آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا“؛ ليصنع سبيكة من الحديد والنحاس، أي أن ذا القرنين استطاع أن يطلق طاقاتهم وقدراتهم الكامنة التي لم تكن ظاهرة في البداية: ”لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا“.[2]
 
إذن جوهر التنمية الذاتية هو إطلاق الطاقات واستخدام الموارد المتاحة محليًّا؛ لإيجاد حل مناسب لمشكلة، أو تصديًا لتحدٍّ يواجه مجتمعًا محليًّا.
 
نموذج من الواقع
 
عندما ذهبنا إلى قرية كفر العرب، مركز فارسكور في محافظة دمياط، مصر، وجدنا وضعًا في منتهى الغرابة. قرية تشتهر بتربية الماشية من أجل إنتاج الألبان، وصناعة أنواع من الجبن منها. كان لدى القرية ثمانية مصانع لمنتجات الألبان، توقف أربعة منها، ويعمل الباقي بـنصف طاقته الإنتاجية.
 
كان السبب في ذلك أن العلف بمكوناته المستوردة يأتي من مصانع خارج القرية، ولما ارتفع سعره اتجه المربون للتخلص من أمهات الماشية بالذبح وبيعها لحمًا!
 
وعندما دار حوار حميم مع أهل القرية ولدت فكرة مشروع لصناعة أعلاف غير تقليدية من عروش البطاطا وبنجر السكر وحطب الذرة الشامية وقش الأرز، بأيدي المزارعين والمربين أنفسهم، بآلات صنعت خصوصًا لتناسب مواردهم المحلية المتاحة، وكذلك لتلائم القدرات المالية والتقنية لأبناء القرية، لكن طبعًا تحت الإشراف التقني والعلمي لخبراء من ’الجمعية المصرية للتنمية الذاتية للمجتمعات المحلية‘.
 
مثل هذا المشروع فرصة لاكتشاف القيادات الطبيعية من أبناء القرية وتكوينها، فهم الذين أشرفوا على تنفيذ المشروع، وقاموا بإنشاء جمعية كفر العرب لتنمية الثروة الحيوانية التي تمد خدماتها للمربين من أبناء القرية.
 
أحدث المشروع تغييرًا في نظرة أبناء القرية لمواردهم المحلية، كما أحدث –على مستوى القرية- تغييرًا في التركيب المحصولي، الزراعة من أجل إطعام السكان لا الحيوان.
 
ألا يدفعنا مثل هذا النموذج إلى إعادة النظر في مفهوم التنمية وتوجهها ومنهاجها؟
 
 
هذا الموضوع أُنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net  بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا