Skip to content

31/03/15

حول العالم العربي.. القرية ليست عشوائية

cities cairo
حقوق الصورة:Panos/ Teun Voeten

نقاط للقراءة السريعة

  • تتخلق حجرات منازل القرى التقليدية أو الواحات أو التجمعات البدوية وفقًا لاحتياجات الأسرة
  • النمط الانتشاري لمنازل البدو ذات الفناء السماوي أنسب لعمران صحراواتنا من المدن الرأسية
  • تطوير أساليب بناء المجتمعات المحلية وتصميماتها التي تتميز بالمرونة المطلقة أنسب للقرية

أرسل إلى صديق

المعلومات التي تقدمها على هذه الصفحة لن تُستخدم لإرسال بريد إلكتروني غير مرغوب فيه، ولن تُباع لطرف ثالث. طالع سياسة الخصوصية.

في بلادنا العربية ما العشوائي: المدينة العصرية أم القرية التقليدية؟ سؤال يطرحه حامد الموصلي

 زرت العريش عام 1986، وكنا صحبة، فيها الدكتور عباس الزعفراني، أستاذ التخطيط العمراني بكلية الهندسة في جامعة الأزهر. وما إن وَطِئَتْ أقدامُنا الأرض، وتبدَّت لنا المدينة بشوارعها المستقيمة المتوازية، والمتعامدة تمامًا مع خط الشاطئ، هتف الدكتور عباس: ”أهذا الذي يسمونه مدنًا عشوائية؟“، القاهرة هي التي تُعَدُّ بحق مدينة عشوائية!

كنا نستمع إلى كلماته والهواء المنعش يهب علينا من البحر، ويتخلل النسيج العمراني للمدينة ذات المباني المنخفضة فاتحة اللون.

تعودنا نحن –أبناء الحضر- النظر إلى الريف باستعلاء، ودرجنا على أن نرى القرية التقليدية كيانًا عشوائيًّا ’متخلفًا‘ مقارنة بالمدينة ’العصرية‘، التي تُعَد القاهرة نموذجًا لها!

والحق أن المدينة ’العصرية‘ عندنا نشأت ونمت في إطار تقليد النموذج الحضاري الغربي وفي إساره، دونما اعتبار للخصائص الحضارية للمجتمع، أو للظروف الاجتماعية الاقتصادية التي يتميز بها.

نسيج حي

لقد سبقت لي دراسة نمط المسكن العرايشي في شمال سيناء عام 1980، ولاحظت وقتها أن البناء كان يبدأ بالسور الخارجي، بحيث ينفصل الفراغ الخاص للمسكن عن الفراغ العام للشارع فالمدينة. كان ارتفاع هذا السور يتحدد بحيث لا يستطيع راكب الجمل أن يرى (يكشف) الفراغ الخاص للمنزل.

يهمني هنا أن أشير إلى البعد الدينامي لبناء المنزل: فبعد بناء السور، تُبنى حجرتان في عمق الفراغ الداخلي للمنزل، مع زراعة نخيل وأشجار زيتون وليمون وأحواض للخضراوات، مع اقتناء الأغنام أو الماعز، ما يوفر قاعدة مادية للاكتفاء الذاتي للأسرة، بعد ذلك يجري بناء ’المندرة‘، وهي حجرة استقبال الضيوف، في مقدمة الفراغ الداخلي؛ حتى يسمح المنزل بالانفتاح على الزائرين دون المساس بخصوصية الأسرة. وهكذا تتخلق حجرات المنزل وفقًا لاحتياجات الأسرة الممتدة التي تسكن المنزل، والتي تتكون من الأب والأم والأبناء المتزوجين.

“البناء بالطين يتميز بالمرونة المطلقة -مقارنة بالجمود المطلق في حالة البناء بالخرسانة المسلحة”

يشارك في بناء المسكن العرايشي عادةً أفراد الأسرة مجتمعين، والأقارب من جهة العمومة والخؤولة، ويتعاون فيه الكبار والصغار، ولا يُستعان من خارج الأسرة إلا بالبنّاء والدبّاش. ويجري بناء المسكن العرايشي باستخدام الطين والتبن لصناعة الطوب، وفصل الشعير والقمح مع الطين لعمل المونة وجريد النخيل للسقف، وغير هذا.

ما أحرص على الإشارة إليه هنا هو المنطق الاجتماعي الحضاري البيئي الثاوي خلف هذا النمط من البناء، وكذلك إلى أن البناء عبارة عن عملية يقوم بها النسيج الاجتماعي الحضاري الحي، وأن البناء كمُنشأ مادي هو في النهاية تعبير عن هذا النسيج الاجتماعي الحضاري.

يتضح مما سبق أن المسكن العرايشي يختلف كيفيًّا عن نموذج المسكن في المدينة العصرية، الذي هو منتج جاهز للسكن لأسرة صغيرة (نووية) يُفْرَضُ عليها قسرًا علاقة سلبية مع الفراغ، ويهبط هذا النموذج بحيويتها إلى مستوى أدنى كثيرًا من نموذج المسكن العرايشي.

اختيار الجوار

إنني أسكن إحدى العمارات ’العصرية‘ في مدينة نصر، وهي من المدن الرأسية، وعندما تقدمت عام 1983 لحجز الوحدة السكنية التي أشغلها الآن، لم أختر جيراني في نفس الطابق، ولا مَن هم فوقي أو أسفل مني. كانت قدرة كل منا على تسديد أعلى قيمة ممكنة من سعر الوحدة السكنية مقدمًا هي الجامع لنا؛ أي أن وجودنا معًا كان ناتج المنافسة على عدد محدود من الوحدات السكنية يفوز فيها مَن يدفع أكثر! لم ير بعضنا بعضًا خلال هذه المنافسة، والتي كان محلها سجلات صندوق بناء المساكن. لم يُحتكم لأي معيار آخر اجتماعي أو ثقافي للجيرة في نفس العمارة أو الشارع أو الحي، أليس هذا منتهى العشوائية؟

حدثني صديقي المحاسب عن مدينته سوهاج بالجنوب وعائلته (الهواشمة) التي تشغل شوارع كاملة متجاورة في المدينة وتتجاور معها عائلات أخرى، قال لي إنه كثيرًا ما يسافر إلى سوهاج، لا لشيء إلا للتواصل مع الأعمام والأخوال وأبنائهم الذين يسكنون المدينة، وأن لدى عائلته مقرًّا دائمًا يسمونه ’المقعد‘، يتلاقون فيه، خاصة في مناسبات الأفراح والعزاء.

صداقة البيئة

عندما كنت أقوم بالدراسة الميدانية لمنطقة الساحل الشمالي الغربي فيما يلي الإسكندرية -من مركز الحمام شرقًا وحتى السلوم غربًا- بعمق 25 كم في جوف الصحراء، لاحظت أن النمط السائد للعمران هو النمط الانتشاري؛ أي تجمعات بدوية صغيرة يضم كلٌّ منها عددًا محدودًا من منازل البدو ذات الفناء السماوي.

والفكرة الرئيسة لهذا النمط هو ضرورة التواؤم مع طبقة من الماء الجوفي الصالح للشرب والزراعة قليلة السمك (نحو 60 سم) والتي مصدرها المطر، تطفو على مياه مالحة مصدرها البحر؛ فالسحب الزائد سوف يؤدي إلى تمليح البئر بطغيان الماء المالح.

ساعتها كنت أسائل نفسي: هل من الصواب اعتبار هذه التجمعات عشوائية؟ وما النموذج الأنسب للعمران إن أردنا الانتقال من وادي النيل إلى الصحراء؟ أيكون النمط الانتشاري الذي قدَّم له بدو الصحراء الغربية نموذجًا أم نمط العمران الذي تقدِّمه المدن ’العصرية‘ بمصر القائم على النمو الرأسي للمدن واكتظاظ السكان؟ والذي يحتاج إلى مصادر طاقة كثيفة للإنارة والصرف الصحي والتدفئة –وأيضًا- التكييف؟

مرونة مطلقة

خلال إحدى جولاتي في قرى الوادي الجديد عام 1986 شاهدت منظرًا لن أنساه طيلة حياتي: أصحاب أحد المنازل المبنية بالطوب اللَّبِن المصنوع من الطين أو الطفلة، والمسلّح بتبن القمح –وهي إحدى أقدم تقنيات البناء التي عرفتها مصر- يقومون بهدم الحوائط ويعيدون بناء المنزل مع استخدام نفس مادة البناء. ما معنى المنظر الذي رأيته؟

“التنوع بمنزلة كنوز يتعين العمل على اكتشافها مع الجماعة المحلية في كل مكان، مما يسمح لنا بالاستفادة من الميزات النسبية والتنافسية لكل قرية في التنمية”

معناه أن البناء بالطين –اختصارًا للقول- يتميز بالمرونة المطلقة -مقارنة بالجمود المطلق في حالة البناء بالخرسانة المسلحة- في إعادة الاستخدام، وكذلك في إعادة تشكيل عناصر الوحدة السكنية وفقًا لاحتياجات السكان ورغباتهم.

أتكلم هنا عن البناء بالطين بحسبانها فكرة يمكن تطبيقها مع العديد من البدائل في المواد (الكرشيف في واحة سيوة، والطفلة في الواحات الداخلة، وصولاً إلى الجبس في العديد من المناطق الصحراوية!)، وكذلك بدائل التصميم (قوالب ومسطحات)، إلا أن القاسم المشترك بينها هو قيام أبناء المجتمعات المحلية بالبناء بأنفسهم وبالموارد المحلية. ما الأنسب للقرية؟ تطوير أساليب البناء التقليدية أم البناء بالخرسانة المسلحة التي يقوم بها المقاول أو شركات البناء؟

إنني أتوجه بخطابي إلى المهتمين بالتنمية في سائر بلدان الوطن العربي، وأحلم بأن نتمكن من إدراك التنوع الهائل الذي يتميز به الريف في بلادنا؛ سواء كان قرى تقليدية أم واحات أم تجمعات بدوية.

ذاك التنوع يمكن أن يكشفه اختلاف الظروف البيئية والمعطيات الجيولوجية والموارد المحلية، وتباين الخبرات التاريخية، وثراء شبكات العلاقات الاجتماعية، وتفرُّد القيم الحضارية التي تترجم نفسها في صورة معادلات نفسية مختلفة تمكِّن أبناء المجتمعات المحلية من الاستقرار والبقاء، وكذلك التراث التقني، حصيلة التراكم المعرفي عبر آلاف السنين في التعامل مع البيئة المحيطة والموارد المتاحة من أجل إشباع الحاجات الأساسية.

إنني أرى ذلك التنوع بمنزلة كنوز يتعين العمل على اكتشافها مع –ومن أجل تنمية- الجماعة المحلية في كل مكان، مما يسمح لنا بالاستفادة –بالمعنى الاقتصادي- من الميزات النسبية والتنافسية لكل قرية في التنمية، وما يجعل كل قرية قادرة على الإبداع، وعلى أن تقدم نموذجها الخاص للمعاصرة، وما يمكِّننا نحن من أن نبلور نموذجنا الخاص بالتنمية على المستوى القومي.

هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا